بقليل من التأمل نستطيع أن نكتشف بسهولة حول أي شيء يدندن الإعلام في قضية تطبيق الشريعة.. إنهم يدندنون حول الفصل بين الشريعة وفهمها، فكل طائفة لها فهمها الخاص بزعمهم للشريعة، فالإخوان غير السلفيين غير الجهاديين.. ولهذا فهم يقولون أي شريعة نطبق، وقد اختلف الإسلاميون أنفسهم في فهمهم للشريعة؟
وهم بهذه الدندنة يقومون بخدعة إعلامية مشهورة.. وهي خدعة التشويش على الأصل.. فهم يضخمون إعلاميًا بهذه الدندنة مساحة الاختلاف في فروع الشريعة -والتي هي من قبيل الرحمة بالعباد- ليشوشوا على أصل المسألة وهي وجوب الاحتكام لله والرسول، والاعتراف بالسيادة لله على خلقه، والتي هي من أخص خصوصيات الربوبية، قال تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)..
والفصل بين الشريعة وفهمها أمر يرفضه العقل، واللغة، والشرع، والتاريخ، والواقع..
أما العقل
فيرفض هذا الفصل باعتبار مآله ونتيجته، والتي هي تنحية الشريعة والاحتكام إلى (القوانين الوضعية) التي يضعها بشر قاصر عن إدراك المصلحة الحقة والعدل التام، فيستبدلها بالأحكام الإلهية التي اشتملت على كافة وجوه المصلحة وتمام العدل؛ ولم لا، وهي شريعة أحكم الحاكمين؟!
وأما اللغة فترفضه
لأن الفصاحة أن تحسن التعبير عما تريد، فهل هناك أفصح من القرآن؟! والبيان لا يكون بيانًا حتى يظهر مراد المتكلم للسامع، والله ما أرسل رسولًا إلا بلغة قومه التي يفهمونها من أجل أن يتبين لهم ما يريده منهم، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)..
والنبي صلى الله عليه وسلم أوتى جوامع الكلم من أجل ذلك، وحدد الله مهمته فقال: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ..
والدندنة حول الاختلاف في فهم الشريعة يوحي بأن القرآن والسنة من الكتب الأعجمية لا العربية، وصدق الله إذ يقول: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)!!
وكذلك الشرع يرفضه..
أولًا: لأن الاختلاف في فهم فروع الشريعة من التوسعة التي وسعها الله على عباده بأن أذن لهم بالتعبد وفق فهمهم للنص ما داموا قد التفوا حوله ولم يخرجوا عنه إلى غيره، كما حدث من النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالصلاة في بني قريظة، فحانت صلاة العصر وهم في الطريق فذكروا الصلاة فقال بعضهم لبعض: ألم تعلموا أن رسول الله أمركم أن تصلوا العصر في بني قريظة، وقال آخرون: هي الصلاة فصلى منهم قوم وأخرت طائفة منهم الصلاة حتى صلوها ببني قريظة بعد أن غابت الشمس، فذكروا ذلك لرسول الله فلم يعنف أحدا من الطائفتين..
فانظر كيف استطاع التشويش الإعلامي أن يقلب النعمة إلى نقمة!!
ثانيًا: لأن الله لم يترك لمن آمن به حقًا خيارًا آخر، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا).
والتاريخ يرفضه كذلك، بل يشهد بعكسه، فالشريعة لم تتخلف عن الحكم والقضاء في مصر إلا مع الاحتلال الغربي لمصر، بدءًا من الحملة الفرنسية عندما أنشأ نابليون (محكمة القضايا) ومرورًا بالمجالس القضائية المحلية في عهد محمد علي والمحاكم المختلطة في عهد إسماعيل (1870) وانتهاءً بالمحاكم النظامية التي اعتمدت القانون الوضعي الفرنسي في عهد توفيق (1884).. وبذلك تقلصت اختصاصات المحاكم الشرعية رويدًا رويدًا، حتى اقتصر عملها على مجال الأحوال الشخصية، حتى ألغاها الهالك عبد الناصر (1956) وألحق دعاوى الأحوال الشخصية بالقضاء العادي..
والسؤال: إنه لم يمر بعد علي تنحية الشريعة 150 سنة.. إذن بماذا كان يحكم الناس قبل ذلك؟!
وأخيرًا.. الواقع هو الآخر يرفض هذه الدعوى، لأسباب كثيرة من أهمها:
أولًا: إن قضية تطبيق الشريعة لا تتأثر سلبًا بالاختلاف العلمي في فروع الشريعة ولا تؤثر فيه، فتطبيق الشريعة محله القضاء، وليست الأمور التعبدية الخاصة، والقضاء يكون بمقتضى ما تعتمده السلطة التشريعية من اجتهادات شرعية، ويظل الخلاف النظري قائمًا، ولكن على المستوى العملى فالقاعدة هي أن حكم القاضي يرفع الخلاف.
ثانيًا: هل الاحتكام إلى القانون الوضعي وتنحية أحكام الشريعة هو الحل للتخلص من الاختلاف؟!
إن الواقع يشهد بأن الاختلاف في تفسير النصوص القانونية أشد منه في أحكام الشريعة، إذ أن الاختلاف في الفهم قد يطال الدستور الذي هو بمثابة المرجع عند الاختلاف في القوانين، وهو ما لا يوجد في الشريعة التي تشتمل على المحكم الذي لا يتشابه في الفهم أبدًا، وهو بمثابة المرجع للمتشابه، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ).
وإذا كان الاختلاف في فهم القوانين الوضعية يرد إلى المحكمة الدستورية لتحسمه لا لتستبعد الدستور وتنحيه جانبًا.. كما يطلب العلمانيون منا أن نفعل مع الشريعة.. فعندنا في الشريعة أيضًا من يرد إليه الأمر لحسم الخلاف، قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
وما أشد الاختلاف في تشريع القوانين في المجالس التشريعية ومن قبله في الهيئات التي تضع الدستور، وما أمر التأسيسية منا ببعيد!!
وإذا كان الخلاف في تشريع القوانين يحسم بالأغلبية، وأغلبية تلك الأغلبية غير متخصصة في القانون.. فما المانع أن يؤخذ برأي جمهور العلماء عند الخلاف في مسائل القضاء؟!
وصدق الله القائل: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).
التعليقات