التغيير السلمي أم التغيير العنيف؟

في ظل معطيات الواقع الصعب، قد يحاول المرء استقراء دروس التاريخ بعدسة اللحظة الراهنة، فيخرج بنتائج مزيفة، واستنتاجات خادعة. فعقب موجة ثورات الربيع العربي في تونس ومصر واليمن راجت أطروحة نجاعة التغيير السلمي الذي حقق نتائج ملموسة بأقل قدر من الخسائر مما جنب البلاد الدمار.

وأُعلن عن وفاة أنماط التغيير العنيفة التي لم تنجح سابقاً في تغيير أي نظام عربي من الأنظمة المستبدة.

ثم مع هبوب رياح موجات الثورات المضادة، ونجاحها في استعادة زمام الحكم الاستبدادي في بلدان الربيع العربي بالتوازي مع تمكن تنظيم (الدولة الإسلامية) من بسط سيطرته على مناطق شاسعة في العراق والشام، راج خطاب (السلمية دين من؟) وعلا سهم أطروحة التغيير بالقوة.

فالدول الكبرى الموجودة في عالمنا المعاصر لم تتأسس أنظمتها سوى عبر حروب أهلية دموية أو ثورات طاحنة أوجدت عقوداً اجتماعية جديدة بين الحكام والمواطنين..

ثم مع فقدان التنظيم للأراضي التي سيطر عليها، وانهيار النموذج الذي قدمه، عادت أصوات دعاة التغيير السلمي للتغريد من جديد بأن خيارهم هو الأصوب، والدليل أن التغيير بالقوة لم ينجح قط في إقامة دولة إسلامية في العصر الحالي. ويردد هذا الكلام مفكرون، وشعراء، وشيوخ، وقيادات جماعات وأحزاب، وشباب أثخنتهم الجراح. ويحتاج ذلك الطرح لتحليل عقلاني يسترشد بحالات التغيير والأنظمة الراسخة التي نشاهدها حولنا في أنحاء العالم.

فالدول الكبرى الموجودة في عالمنا المعاصر لم تتأسس أنظمتها سوى عبر حروب أهلية دموية أو ثورات طاحنة أوجدت عقوداً اجتماعية جديدة بين الحكام والمواطنين. فأميركا بصورتها الحالية لم تتأسس سوى بحروب طاحنة ضد السكان الأصليين من أجل السيطرة على الأرض والموارد، ثم حرب ضروس في القرن الثامن عشر ضد بريطانيا العظمى من أجل الاستقلال عن الإمبراطورية العجوز وامتلاك القرار الذاتي، ثم بحرب أهلية طاحنة استمرت من عام 1861 إلى عام 1865 أسفرت عن مقتل قرابة المليون قتيل، لتنتهي الحرب برسوخ منظومة الحكم الأميركي الحالي.

أما بريطانيا التي دشنت إمبراطورية هائلة خلال القرنين السابقين على الحرب العالمية الثانية، فلم يتأسس نظامها الحالي الذي صارت فيه الملكية رمزية سوى بعد حروب داخلية رهيبة بين الملكيين والبرلمانيين، بلغت أوجها بسيطرة كرمويل على الحكم وتأسيسه لنظام جمهوري في القرن السابع عشر، قبل أن يستعيد الملكيون الحكم مجدداً، ولكن مع فقدانهم لاحقاً لسلطاتهم المطلقة.

وإذا كانت هذه هي دروس الواقع المعاصر، فدروس التاريخ أكثر دلالة، إذ لم تنشأ الدولة النبوية سوى بعد قتال الأعداء المتربصين بها في مكة وغيرها. وكذلك لم تنشأ الدول الأموية والعباسية والعثمانية سوى بعد حروب طاحنة.

وكذلك فرنسا التي يتغنى البعض حالياً بعدم سحق شرطتها لمتظاهري الستر الصفراء مثلما تفعل الأنظمة العربية مع شعوبها، فلم يتأسس نظامها الجمهوري إلا بعد ثورة حمراء على الأسرة الحاكمة الفرنسية عام 1789، ثم واجهت الثورة بعد ذلك التحالفات الأوربية التي نجحت في إعادة الملكية مؤقتاً إلى فرنسا، قبل أن ينجح الفرنسيون مجدداً في إعادة الحكم الجمهوري النيابي عام 1848، فيما يُعرف بالجمهورية الفرنسية الثانية بعد حروب ومواجهات داخلية وإقليمية.

وحتى إيران، الوحش الإقليمي الذي يبتلع حالياً الدول العربية الواحدة تلو الأخرى، فلم يتأسس نظامها الخميني سوى عبر ثورة شعبية دموية أطاحت بحكم الشاه في نهاية سبعينات القرن المنصرم، وأعدمت قرابة ألفين من أعوان الشاه عبر محاكم ثورية قادها صادق خلخالي.

بل، وحتى النظام العسكري الحاكم في مصر فلم يصل للسلطة سوى بانقلابين عسكريين، الأول في يوليو 1952، والثاني في يوليو 2013. وكذلك الحال في النظام البعثي السوري الذي وصل للحكم عبر انقلاب عسكري قاده حافظ الأسد عام 1970.

وكذلك الوضع في المملكة العربية السعودية التي نجح في تكوينها الملك عبدالعزيز آل سعود بعد حروب متنوعة مع الأشراف في الحجاز، وآل رشيد في حائل، والإخوان في السبيلة وغيرها. وهنا لا أتناول دور الدول الكبرى في تأسيس الأنظمة العربية، إنما أتناول كيفية تمكن قادة هذه الأنظمة من تأسيس حكمهم، والتغلب على خصومهم.

وإذا كانت هذه هي دروس الواقع المعاصر، فدروس التاريخ أكثر دلالة، إذ لم تنشأ الدولة النبوية سوى بعد قتال الأعداء المتربصين بها في مكة وغيرها. وكذلك لم تنشأ الدول الأموية والعباسية والعثمانية سوى بعد حروب طاحنة.

إذاً فتأسيس الدول والأنظمة الراسخة لم يتحقق إلا عبر أدوات التغيير غير السلمي، فهذه هي حقائق الواقع ودروس التاريخ. أما العمل السلمي فتكون له جدوى في التمهيد للتغيير العنيف، أو في إحداث تغيير في ظل منظومة حكم تحترم خيارات الشعوب. أما في غير ذلك فما هو إلا وهم وسراب يحسبه العطشى ماء.

هناك مقومات للتغيير متى افتقدت لن تنجح محاولات التغيير، دون أن يعني ذلك أن التغيير بالقوة غير مُجدٍ.

ويتفرع على أطروحة عدم جدوى أي تغيير سوى التغيير السلمي، أطروحة أخرى تزعم أن الثورات والتمردات تفشل في النهاية غالباً. ورغم أن هذا الزعم لا يستند إلى دراسة وافية إنما إلى نماذج منتقاة تدعمه، فإنه لقي رواجاً وانتشاراً. ولا أجد شيئاً يفنده أفضل من دليل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لتحليل التمرد الصادر عام 2012؛ إذ ورد فيه حسب إحصائية هامة أن عدد انتصارات التمردات يماثل عدد انتصارات الحكومات؛ إذ حيث جاء فيه ما يلي: “وقع ما لا يقل عن 130 تمرداً مسلحاً منذ الحرب العالمية الثانية، ولا يزال هناك ما لا يقل عن أربع وعشرين تمرداً مستمراً حتى أواخر عام 2011. ويبلغ متوسط استمرار هذه التمردات أكثر من 21 عاماً. ومن بين حالات التمرد المنتهية:

  • انتهت حوالى 36 في المائة بانتصار المتمردين بعد استغراق فترة صراع بلغ متوسطها قرابة 10 سنوات.
  • كان لدى 28 في المائة تقريباً نتائج متباينة، لأن المتحاربين توصلوا إلى تسويات تطلبت من الجميع تنازلات مهمة. وبلغ متوسط استمرار التمردات في هذه الصورة قرابة 8 سنوات.
  • أسفرت 36 في المائة من الحالات تقريباً عن انتصار الحكومة، بعد انقضاء فترة صراع بلغ متوسطها 12عاماً”.

ولا يعني ما سبق بطبيعة الحال أن أي محاولة تغيير بالقوة ستنجح، فهناك مقومات للتغيير متى افتقدت لن تنجح محاولات التغيير، دون أن يعني ذلك أن التغيير بالقوة غير مُجدٍ.

المصدر: مجلة كلمة حق

التعليقات