“كل هجوم يفقد زخمه مع الوقت”
(كلاوزفيتز)
أعلن الجيش المصري يوم 9/2/2018 تدشين حملة عسكرية شاملة من ضمن أهدافها القضاء على الجماعات المسلحة في سيناء، مما طرح تساؤلات مهمة عن مدى قدرة الجيش على تحقيق هذا الهدف الذي فشل فيه عبر السنوات الماضية.
ونظرا لأن الوضع في سيناء وفقا للتصنيفات العلمية الأمنية والعسكرية يندرج تحت تصنيف التمرد، فسأعتمد في تحليل المشهد السيناوي على عقيدة مكافحة التمرد الأمريكية الصادرة عام 2009 بعنوان “دليل الحكومة الأمريكية لمكافحة التمرد”، وعلى دليل الميدان لمكافحة التمرد الخاص بالجيش الأميركي ومشاة البحرية الصادر عام 2006.
لا يشترط لاندلاع التمرد أن تقوم به أعداد كبيرة، إذ يوضح دليل الميدان الأميركي أنه “يمكن لحفنة صغيرة من المتمردين تتوافر لديها دوافع قوية، وأسلحة بسيطة، وقدرة على تأمين العمليات، وقابلية محدودة للحركة أن تقوض الأمن في مناطق شاسعة”. ويلفت دليل الحكومة الأمريكية النظر إلى أنه يكفي لاشتعال التمرد أن يحظى بدعم أقلية صغيرة من السكان بالتوازي مع إذعان (عدم اعتراض) بقية السكان الآخرين. ويؤكد أن متطلبات نجاح التمرد من قيادة كاريزمية ومجندين وأنصار وإمدادات وملاذات آمنة وتمويل تتحقق على أفضل وجه عندما يستند المتمردون على قضية سياسية جذابة تنجح في توظيف الهوية الدينية أو القبلية أو المحلية، والمظالم المجتمعية المنتشرة، واحتياجات السكان.
أما مكافحة التمرد فهى عبارة عن “مزيج من الجهود المدنية والعسكرية الشاملة التي تهدف إلى احتواء التمرد ومعالجة أسبابه الجذرية في آن واحد”. وتسعى استراتيجيات مكافحة التمرد لترسيخ شرعية الحكومة المتضررة عبر تبني الإصلاح السياسي، وتعزيز سيادة القانون، وزيادة التنمية الاقتصادية، ومعالجة المظالم المجتمعية، بالتوازي مع استخدام الأنشطة الأمنية والعسكرية لتدمير أو احتواء أو تهميش أو استقطاب المتمردين.
النهج المتمحور حول العدو: يركز أنشطته على المنظمات المتمردة، ويعتبر أن هزيمة العدو مهمة أساسية والأنشطة الأخرى بمثابة جهود داعمة.
النهج المتمحور حول السكان: يعتبر هذا النهج أن العمل العسكري ضد المتمردين لا يمثل مركز الثقل رغم أهميته، ويفترض بدلا من ذلك أن مركز الثقل يتمثل في علاقة الحكومة مع السكان، فيحرص على اكتساب ثقتهم ودعمهم.
ويؤكد الدليل المذكور أن النهج المتمحور حول العدو قد يكون فعالا ضد التمرد البسيط الذي يقوده أو يتحكم فيه مركزيا شخص كاريزمي أو قوي. في حين تظهر التجربة التاريخية أن النهج الذي يركز على السكان يحوز فرصا أكبر للنجاح في مواجهة التمردات المعقدة غير الهرمية.
خلال الفترة من 2007 إلى يناير 2011 شهدت سيناء حالة من الهدوء الخادع، وأدت الإجراءات الأمنية القمعية إلى حدوث عكس المقصود منها، إذ تعرف المعتقلون من أبناء سيناء في سجون مبارك على العناصر الجهادية المخضرمة من المحافظات الأخرى، فتوثقت بينهم العلاقات وتم تبادل الخبرات، ومن ثم نجح المعتقلون المفرج عنهم قبيل ثورة يناير -مثل توفيق فريج ومحمد النخلاوي- في تأسيس نواة تنظيم جديد اشتهر لاحقا باسم أنصار بيت المقدس. وعقب اندلاع ثورات الربيع العربي نجح التنظيم في الاستفادة من انتعاش التيار الجهادي بخروج عناصره من المعتقلات، ووصوله إلى مخازن أسلحة القذافي، فضم إلى صفوفه عناصر جهادية من الوادي بل ومن خارج مصر، كما امتلك أسلحة نوعية من قبيل الصواريخ المضادة للطائرات وصواريخ الجراد والكاتيوشا ومدافع الهاون.
بدأ التنظيم أولى عملياته ضد أهداف إسرائيلية عام 2011 ولم يدخل في مواجهات مع الجيش والشرطة سوى بعد الانقلاب، وحينئذ اعتمد التنظيم استراتيجية تقوم على التصعيد المتدرج للعمليات من أجل إنهاك قوات الأمن وتحطيم معنوياتها، بدءا من شن الهجمات البسيطة مثل اغتيال عناصر الأمن وصولا إلى العمليات المعقدة مثل اقتحام حواجز الجيش والسيطرة عليها، كما استهدف المصالح الاقتصادية للنظام مثل خط الغاز الواصل إلى مصانع الأسمنت التابعة للقوات المسلحة والسياح الأجانب.
انعكست المبايعة على استراتيجية التنظيم، فتحول من نمط دفع الصائل إلى السعي لإقامة إمارة، فحرص على إبراز مظاهر السيادة على الأرض، وأعلن عن تشكيله لشرطة حسبة تطارد مهربي المخدرات وتصادر الممنوعات وتقيم الحدود الشرعية، كما قام بتوزيع مساعدات عينية على الأهالي في مناطق نفوذه، وحاول السيطرة على مدينة الشيخ زويد في هجوم ضخم في يونيو2015، وسعى للتمدد البطيء والخروج من الحيز الجغرافي المحدود في رفح والشيخ زويد والعريش، فبدأ في شن هجمات ببئر العبد فضلا عن الحسنة والقصيمة بوسط سيناء.
هذه الاستراتيجية التي يتبعها الجيش المصري تخالف أبجديات الاستراتيجيات الناجحة لمكافحة التمرد التي تنص على أن “الحفاظ على أرواح المدنيين وكرامتهم أمر حيوي”، وأنه “لابد أن يشعر المواطنون بالحماية لا بالتهديد من قِبل الإجراءات والعمليات التي تقوم بها قوات مكافحة التمرد”، وأنه “إذا أمكن للمتمردين استثارة إجراءات حكومية مفرطة ضد السكان، فإن الموت أو الإصابة أو سوء المعاملة أو الإهانة ستصبح حوافز قوية لاتخاذ إجراءات انتقامية ضد الحكومة”. وهو ماحدث بالفعل وأدى لتعقد المشهد وتأججه.
أي إن هذه الحملة قد تحقق نجاحات قصيرة المدى، ولكن على المدى الطويل ستفشل في تحقيق أهدافها، لأن سياسة العقاب الجماعي والأرض المحروقة لا تجلب سوى خصومة السكان وكراهيتهم وتوفر الدعم الشعبي للمسلحين، فضلا عن إمعانها في القضاء على البقية الباقية من شرعية الجيش الذي اقتصر دوره منذ الانقلاب العسكري على البطش والتنكيل بالمصريين وارتكاب المجازر الجماعية بحقهم.
_______________________________________________________
المصادر
– أحمد مولانا- جماعة أنصار بيت المقدس : الفكر والحركة.
– أحمد مولانا – من التوحيد والجهاد إلى أنصار بيت المقدس.
– U.S. GOVERNMENT COUNTERINSURGENCY GUIDE
– The U.S. Army and Marine Corps Counterinsurgency Field Manual
التعليقات