أي صراع لابد له من عقيدة وقضية ومنهج واستراتيجيا وخطة.
وفي ظل الصراع الحالي في مصر، كثيراً ما تصيبني الحيرة وينتابني العجب، إذ يبدو أن حالة الاهتراء ليست فقط هي السمة السائدة للنظام السياسي ولا لأنصار نظام هز الوسط؛ وإنما كذلك للتيار المعارض ذي الاعتبار في الواقع الآن كماً وكيفاً وهو التيار الإسلامي.
وفي الحقيقة فإن العجب ليس من أداء التيار الإسلامي ولا صوابية ادائه من خطأه وخطله؛ وإنما من حقيقة وجود صراع من أساسه!!
بطبيعة الحال لا أتحدث هنا عن الدماء والسجون والاحكام الإجرامية الجائرة من قبل النظام، فهذه إنما تؤكد أن النظام جاد وموغل في الصراع مع تصور كامل وصحيح لكل أبجدياته، وإنما أتحدث عن انفعال الحركة الإسلامية تجاه أصل الصراع كقضية وأمام هذه الجرائم!!
وهنا لابد من تخصيص الحديث عن جماعة الإخوان قبل غيرها، لاعتبارات تتجاوزها الجماعة وأبنائها قبل قياداتها، فالجماعة حين تتحدث عن التاريخية والخبرة والأداء المذهل الذي لا مثيل له، فهي في الصدارة من وجهة نظر مجموعها ومؤيديها ولا بأس من الضرب على هذا الوتر ليل نهار!!
وإن أردت أن تتناول أي جانب نقدي -مستحق في رأيي- فلابد أن تنتفض حوائط الصد المتعصبة والمتشنجة التي ترفض أي ولوج إلى ما تحت ذلك السطح البراق والعباءة الأم؛ من التناقض والعشوائية والظُلمة أحياناً، مع عدم القدرة على تصور أي سبب لهذا النقد وذاك التقويم اللهم إلا أن يكون الناقد حاقداً على إنجازات الجماعة وعبقريتها الفذة في الحركة والتغيير بل والتنظير!!
وإنما طرحت قضية جماعة الإخوان المسلمين في مساق الصراع؛ لأنها إحدى أكبر الجماعات المنظمة ذات الكتلة الصلبة التي حافظت على هياكلها وموروثاتها على مر عقود وهي بهذا الاعتبار تدخل في التصنيف الصحيح كجماعة بنائية في النسق الاجتماعي بحسب إيفانز بريتشارد خلافاً لمدرسة راد كليف براون.
هذا وإن شاركتها هذه الصفة بقية الجماعات الإسلامية وقليل جداً من الفئات السياسية؛ إلا أن قدر الجماعة -وقدرنا- أن كانت هي الوحيدة تقريباً التي تصدرت بصفتها البنائية والنظامية تلك؛ في واجهة الأحداث وصارت أحد قطبي الرحى في مواجهة العسكر.
وإذا كان الحال كذلك فكان لزاماً أن تمتلك الجماعة أدوات المواجهة والصراع فكرياً وحركياً، وفي هذا الإطار قد يطول الحديث في التفتيش بين كراكيب المواقف والأفكار التي خاضتها ونظرت لها الجماعة أو مارستها وطرحت اطروحاتها.
لكنني ساركز على المشهد الحالي -فحسب- من عدة زوايا تبرز المقصود على الاقل ولو نبذاً يسيراً:
فالتركيز على معاناة ومظلومية الأسرى وذويهم فحسب، ووجوب إخراجهم وإيقاف ما هم فيه؛ هو انتكاسة فعلية لا لكفة الصراع فقط وإنما في عقول وقلوب من يطرحون هذا الطرح، فمعناه باختصار أن كل القضية قد تركزت في بعد إنساني وضغط عاطفي يقضي بالسعي نحو فكاك أسر هؤلاء ووقف العسف بذويهم والأحكام التي تهدد حاضرهم ومستقبلهم بل وحياتهم!!
ومختصر هذه الرؤيا -رغم اعتبارها الكامل- أن كل التضحيات وكل المنطلقات الصحيحة؛ قد ذهبت هباءً بل هو حكم بعدم أحقية المبادئ التي ناضل هؤلاء من أجلها، وهو تنازل دون مقابل عن جميع الحقوق التي أهدرت وامتهنت في سبيل ذلك، فقط إطلاق سراحهم وبأي ثمن!!
وهنا يؤرقني سؤال كان لابد أن يفعل ما هو أكثر من الأرق في نفوس هؤلاء الطيبين وأصحاب القلوب الرقيقة، فهذا حال من هم أحياء لكنهم في رق الأسر وذويهم، فما هو حال الدماء البريئة التي مازالت تشكوا إلى ربها: أي رب سل القاتل فيم قتلني؟!
ومن ورائهم تئن كل ثاكلة وتنوح كل نائحة ويهمي كل هَمِي ويبكي كل يتيم من أم وولد وزوج، فإن اطلقت سراح الأسير فمن يشفي كلم مكلوم في فاقده فقداً لا يرجى جبره ولا يرتجى وجد معه.
وفي سياق ما يعرف بالانتخابات الرئاسية؛ فياللعجب ممن يرتجون دفع ظالم بظالم -زعموا- إذ هم في الظلم سواء أو يعدو أحدهما على صاحبه، بل لم يزيدوا أن طلبوا دفع يزيد بابن زياد فكلاهما في الشر سواء.
ومحصلة ما يدعو إليه أولئك -إذ هم الأبعدون- أبعدوا النجعة او أبعدهم الله أو ضل بهم في سوح الفكر كل مضلل.
فهؤلاء المتبارون اليوم لم يُبد واحدٌ فيهما حزناً ولا ندماً ولا أبان عن عزم ولا نية أن يفك أسر أسراكم أو يرد حقاً لمظالمكم ولو وعداً، وقد علمتم وعود هؤلاء من كل خب ومُنَكثِ، بل لم يُبِنْ موقفاً منه تجاه هذه الحقوق أصلاً، فيكونون له عوناً وسنداً ، فيستقوي بهم الثاني ويستكثر بهم الأول، ثم هم بين قاتل وقاتل والثاني أظلم من الاول والأول أفجر من الثاني، ومحصلة هذا الهزر أنهم يدعمون دولة الظلم والعسكر ويطيلون أمد بقاء دولة الظالمين التي تدمر البلد ومقدراته وتوشك أن تذهب بماضيه وحاضره وإنسانه وثرواته.
فبدلاً من أن يطوروا قوتهم كبديل شعبي يرغم الطرفين -ومن ورائهما جماعة نجمة وكاب ودبورة- على الإذعان لمطالبه ومطالب الشعب والأمة، راحوا يبحثون في جعل أحدهما بديلاً لصاحبه وامتداداً لفئة العسكريتارية، فكلا الرجلين من مزجاة واحدة.
التعليقات