تكشف وثائق الأرشيف البريطاني المرفوع عنها السرية الكثير من التفاصيل الهامة عن حيثيات نشأة الدولة السعودية الثالثة في مطلع القرن العشرين. فقبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى كانت الجزيرة العربية تخضع شكليا لنفوذ الدولة العثمانية، وتوجد في المدينة المنورة حامية تركية تشرف على تأمين خط سكة حديد الحجاز، بينما تتقاسم القبائل والعائلات النفوذ الفعلي والسيطرة على الأرض، فالأشراف يحكمون الحجاز وآل سعود يحكمون نجد والأدارسة يحكمون عسير وآل رشيد يحكمون حائل والجوف.
في تلك الآونة كانت بريطانيا تحرص على استقرار الدولة العثمانية وتتجنب إقامة علاقات خاصة مع زعماء المناطق الخاضعة للنفوذ العثماني، وهي السياسة التي تغيرت مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.
سعى أمير نجد، عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، إلى فتح خطوط تواصل مع بريطانيا، فقابل في أبريل 1911 المعتمد السياسي البريطاني في الكويت الكابتن شكسبير، الذي دوّن في تقرير مطول بعثه إلى قياداته مجريات اللقاء قائلا “لم يُظهر ابن سعود ولا إخوته أي أثر من روح التعصب التي كان يمكن توقعها من الأسرة الوهابية الحاكمة… وحينما أخذ عبد العزيز يسألني عن رأيي في العلاقات بين بريطانيا وتركيا، قلت فورا إني لم آت لبحث الشؤون السياسية، وإنما كي أرى كيف يعيش زعماء العرب في البادية، كما أنني لست مخولا للبحث في السياسة معه، وإن حكومة صاحبة الجلالة لا تتدخل في شؤون البلاد العربية الوسطى الخاضعة للنفوذ العثماني، وتحصر اهتمامها في مصالحها على خط الساحل.
فقال عبد العزيز إنه يفهم موقفي تماما، ولكنه يكون شاكرا إذا سمعت ما يريد قوله، وإذا رغبت بعد ذلك في إبداء أرائه لرؤسائي فذلك من شأني”. وتمثلت مقترحات ابن سعود في رغبته في دعم بريطانيا له في مواجهة الأتراك الذين يعززون قواتهم عبر ساحل الإحساء، ما يعيقه عن إعلان التمرد عليهم قبل الحد من قدرتهم على جلب الجنود بحرا. ومن ثم تكررت لقاءات ابن سعود مع شكسبير.
في الوقت ذاته الذي كان ابن سعود يجسّ نبض البريطانيين ويطلب دعمهم، كان يوطد علاقته مع العثمانيين، فأرسل في مطلع 1914 إلى صديقه طالب النقيب، المقرب من الأتراك، قائلا “سررت كثيرا بتسلم خطابكم الذي تعبرون فيه عن ولائكم للحكومة العلية، وهو الولاء الذي أشارككم إياه، وكما تعلمون يا أخي فإنني أول من أرجو الخير للحكومة والبلاد”.
وقع ابن سعود في 15 مايو 1914 معاهدة مع العثمانيين نصت على توليه منصب (والي نجد) طيلة حياته، ووراثة أولاده للمنصب من بعده، وعلى أن الدولة العثمانية متى دخلت في حرب مع دولة أجنبية أو إذا حدث اضطراب داخلي في أي من ولاياتها، وطلبت منه ارسال قوة دعم، فعليه توفير تلك القوة مع كامل أسلحتها ومؤنها.
لم يفت ابن سعود قبل التوقيع على المعاهدة أن يأخذ رأي الإنجليز سرا، فكتب، في 2 أبريل 1914، إلى المعتمد السياسي البريطاني في البحرين، تريفور، قائلا “تسلمت معلومات من المبعوث التركي عمر بك مارديني، الذي وصل من القسطنطينية مباشرة.. ولم أحب أن أراه حتى أخبركم لكي تعلموني بالمطلوب وبأي شكل يكون”.
تقلبات الحرب العالمية الأولى
عندما لاحت بوادر مشاركة الدولة العثمانية في الحرب، كتب السير ماليت، سفير بريطانيا في القسطنطينية، إلى وزير خارجيته إدوارد غراي، بتاريخ 4 سبتمبر 1914 قائلا “أوافقكم على أنه إذا تحالفت تركيا مع ألمانيا وأصبحت الحرب محتومة؛ فمن المحتمل أن يصبح من أهم الأسلحة دعم وتنظيم حركة عربية.. يجب أن يوجهها ابن سعود.. بالتعاون مع أصدقائنا من زعماء العرب”. ووقعت الحرب بالفعل، وصار ابن سعود الرجلَ المفضل في الجزيرة العربية بالنسبة إلى حكومة الهند التابعة للتاج البريطاني، بينما صار الشريف حسين الرجلَ المفضل لدار المندوب السامي في مصر.
انقلب والي نجد (ابن سعود) على العثمانيين فسجن ضابطا تركيا أوفدته حكومة الباب العالي إليه لتدريب قواته، كما اعتقل أربعة علماء أرسلتهم السلطات التركية إليه للدعوة في نجد إلى الجهاد ضد الإنجليز وأرسل إلى القنصل البريطاني العام بالخليج بيرسي كوكس في نوفمبر 1914 قائلا “إنني واحد من أكبر أعوان حكومة بريطانيا العظمى التي ستحصل بعون الله مني على نتائج مرضية”. كما شن ابن سعود حربا ضارية ضد آل رشيد الموالين للعثمانيين، وقُتل الكابتن شكسبير في تلك الحرب في 1915 أثناء تواجده مع الجيش السعودي.
عندما أعلن الشريف حسين ثورته ضد الأتراك انطلاقا من الحجاز في يونيو 1916 سارع ابن سعود، في 20 يوليو من العام نفسه، إلى ارسال رسالة إلى برسي كوكس قال فيها “نصيحتي أن تساعدوا الشريف بشكل جزئي، لكي يبقى لدى الأتراك أمل في القضاء عليه، ويبقى هو أيضا خائفا من الأتراك، وهكذا سيصبح الأتراك محرجين جدا في الحجاز، وسيساعدكم هذا على عملكم في العراق وأماكن أخرى”.
وبالرغم من مضمون الرسالة السابقة التحريضية ضد الشريف حسين، فإن ابن سعود أرسل إلى الشريف رسالة في أغسطس 1916 قائلا “تعلمون سيادتكم أن كل شيء ثابت على أساسه، وإن أساس الدين والدنيا هو الصدق.. لقد ثبت لدي أن هدف الأتراك الوحيد هو تدمير الإسلام والمسلمين وخاصة العرب، ولذلك علينا أن نكون صادقين إزاءك وأن نتعاون معك في كل الأحوال”.
كما أرسل ابن سعود رسالة إلى الشريف (عبد الله بن الحسين) في أكتوبر 1916 يهنئه فيها بالسيطرة على الطائف قائلا “كل من يحمل الحماسة الدينية من العرب يجب عليه أن يعمل قصارى جهده لمحاربة الأتراك وحلفائهم، لأنهم أخطر عدو للعرب والمسلمين…أعاهدك بالله أنني معك بكل قوتي وقلبي، ولا أخفي عنك أي شيء، والله شاهدي”.
رغم رسائل ابن سعود المتعددة للإنجليز التي توضح كراهيته للشريف حسين، فإنهم حرصوا على تلطيف الأجواء بين الرجلين، فأرسل القنصل البريطاني في جدة (ويلسون) رسالة في نوفمبر 1916 إلى الشريف حسين متحدثا فيها عن دعم ابن سعود لثورته، ومؤكدا أن “حكومة بريطانيا حريصة جدا على أن يدعم جميع الشيوخ العرب القضية العربية الشريفة”. ومن ثم أرسل الشريف حسين رسالة ودية إلى ابن سعود قائلا “أرسلت لك كل ما طلبته من مال.. علينا أن نوجه عملنا لهدف واحد، لأن كلينا حليفان وصديقان حقيقيان للحكومة البريطانية، التي هى الصديق الحقيقي للعرب”.
عقب انتهاء الحرب العالمية طالب الشريف حسين بحكم “الدولة العربية الكبرى”، التي وعدته بها بريطانيا، وتصور أنها ستشمل الحجاز والشام والعراق وفلسطين، ورفض التوقيع على معاهدة فرساي، ولم يوافق على فرض الانتداب على فلسطين، فتنكرت له بريطانيا، وسمحت لعبد العزيز بن سعود بالتمدد والقضاء عليه، ليؤسس نواة الدولة السعودية الثالثة التي عبّر عن أهميتها المعتمد السياسي البريطاني في البحرين الميجر ديكسن في أغسطس 1920 قائلا:
“جزيرة عرب وسطى قوية يحكمها ابن سعود، وهو مرتبط بأشد العلاقات الودية مع الحكومة البريطانية، تكون ملائمة للسياسة البريطانية كل الملائمة، إنها ستحسم الكثير من المصاعب، وفي الوقت نفسه تجعل كل الدويلات الساحلية معتمدة علينا أكثر مما هى عليه الآن. الكويت والبحرين والساحل المهادن وعمان والحجاز وحتى سوريا سوف تعيش كلها في هلع من جارها القوي، وتكون أكثر انصياعا لرغبات حكومة الجلالة مما هى عليه اليوم.. إن طريقة العربي هى أن يعيش على تحريض جيرانه الأقوياء بعضهم ضد بعض. وفي الوقت نفسه إذا لم يستطع القيام بذلك، فعليه أن يستند إلى دولة حامية قوية للالتجاء إليها، وإذا أصبح ابن سعود قويا جدا في جزيرة العرب، فإن النفوذ البريطاني يزيد زيادة عظيمة بين الدول الساحلية”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية (نجد والحجاز) ترجمة نجدة فتحي صفوة، المجلدات: الأول والثاني والثالث والخامس، ط. دار الساقي.
التعليقات