لغة البقاء للأقوى هي اللغة السائدة في عالم الغاب الذي نعيشه، والذي يتحكم فيه أرذل خلق الله من الذين تطاولوا في بنيان الدنيا وافتتن بهم أصحاب قارون في القرن الحادي والعشرين وقالوا مثل ما ما حكاه الله عن أسلافهم: (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)..
وأخطر ما في الأمر أن صار أصحاب النفوذ والسلطان هم مصدر التوجيه الحقيقي، لقد أعادوا صياغة القيم والتصورات في حياة الناس، وأقاموا موازينهم وقوانينهم وشرائعهم الوضعية المحلية والدولية، وعلى الرغم من أنهم ما قصروا في التطفيف في تلك الموازين أو خرق تلك القوانين إذا ما هددت مصالحهم، إلا أنهم استطاعوا بشريعة الغاب أن يقنعوا العبيد المستضعفين بزبالات أفكارهم.. حتى إنهم أقنعوهم أن حقوق الإنسان المزعومة يمكن أن يحصلوا عليها من مجلس أسس على الظلم والحرب من أول يوم، لا لشيء إلا ليضمن للأعضاء الدائمين فقط تحقيق أمنهم وأطماعهم الاستخرابية.. وما موقفهم من سوريا وتناقضه مع موقفهم من ليبيا ببعيد.
إلا أن شريعة الغاب هذه لا تقنع إلا العبيد.. أما الأحرار فقد أيقنوا أن القوى الأرضية مهما تعاظمت فهي زائفة وزائلة، وأن الله وحده هو القوى العزيز.. وأن النصر من عند الله وحده.. وأن الأمر بيد الله وحده.. وأن الحكم لله وحده.. وأن مصدر التوجيه الوحيد هو ذلك الكتاب الذي أنزله لعباده.. وتلك الشريعة التي جاء بها رسوله – صلى الله عليه وسلم.
وصدق الأستاذ سيد قطب –رحمه الله- إذ يقول في ظلال القرآن: (لم يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه .. لقد صاغ لهم أعداء هذا الدين أبدالا منه يتلقون منها التوجيه في شؤون الحياة كلها .. حتى ليتلقون منها تصوراتهم ومفاهيمهم ، إلى جانب ما يتلقون منها شرائعهم وقوانينهم ، وقيمهم وموازينهم! ثم قالوا لهم : إن هذا الدين محترم ، وإن هذا القرآن مصون. وهو يتلى عليكم صباحا ومساء وفي كل حين ويترنم به المترنمون ، ويرتله المرتلون ..
فماذا تريدون من القرآن بعد هذا الترنم وهذا الترتيل؟!
فأما تصوراتكم ومفهوماتكم ، وأما أنظمتكم وأوضاعكم ، وأما شرائعكم وقوانينكم ، وأما قيمكم وموازينكم ، فإن هناك قرآنا آخر هو المرجع فيها كلها ، فإليه ترجعون! …
ولكن العجيب في شأن هذا القرآن ، أنه – على طول الكيد وتعقده وتطوره وترقيه – ما يزال يغلب! ..
إن لهذا الكتاب من الخصائص العجيبة ، والسلطان القاهر على الفطرة ، ما يغلب به كيد الجاهلية في الأرض كلها وكيد الشياطين من اليهود والصليبيين وكيد الأجهزة العالمية التي يقيمها اليهود والصليبيون في كل أرض وفي كل حين …
هذا الكتاب ما يزال يعمل من وراء هذا الكيد وسيظل يعمل وما تزال في أنحاء في الأرض عصبة مسلمة تتجمع على جدية هذا الكتاب ، وتتخذه وحده مصدر التوجيه وهي ترتقب وعد اللّه لها بالنصر والتمكين. من وراء الكيد والسحق والقتل والتشريد ..
وما كان مرة لا بد أن سيكون ..).. انتهى كلامه رحمه الله.
وأخيرا.. فإن كل عجب من سلطان القرآن القاهر لكل كيد يزول إذا ما استحضرنا أمرين:
الأول: حقيقة هذا الكتاب.. فهو وإن كان كلاما عربيا، ولكنه كلام الله.. جل جلاله وتقدست اسماؤه.. قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ).
الثاني: أن الله ما ربط قيام هذا الدين بشخص الرسول – صلى الله عليه وسلم، قال تعالى : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ).. وإنما ربطه بهذا الكتاب وتلك الشريعة: قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
التعليقات