بصائر قرآنية – إن جاءكم فاسق!

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا

هل تعلم أن هذه الآية نزلت بشأن حرب كادت تقع بين جيش النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض المسلمين؟

هل تعلم أن الفاسق الذي نرلت الآية بشأنه هو صحابي جليل أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمع الزكاة؟

هل تعلم ما حكم التبين في الشرع؟ وما علاقته بالإيمان؟

إذا أردت أن تعلم فتأمل معي سبب نزول هذه الآية، ففي الحديث الحسن الذي رواه الإمام أحمد وغيره أن الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَدَخَلْتُ فِيهِ، وَأَقْرَرْتُ بِهِ، فَدَعَانِي إِلَى الزَّكَاةِ، فَأَقْرَرْتُ بِهَا، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي، فَأَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَمَنْ اسْتَجَابَ لِي جَمَعْتُ زَكَاتَهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا لِإِبَّانِ كَذَا وَكَذَا(موعد معين) لِيَأْتِيَكَ مَا جَمَعْتُ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا جَمَعَ الْحَارِثُ الزَّكَاةَ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لَهُ، وَبَلَغَ الْإِبَّانَ (الموعد) الَّذِي أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِ، احْتَبَسَ (تأخر) عَلَيْهِ الرَّسُولُ، فَلَمْ يَأْتِهِ، فَظَنَّ الْحَارِثُ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِيهِ سَخْطَةٌ (غضب) مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ، فَدَعَا بِسَرَوَاتِ (أشراف) قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَقَّتَ لِي وَقْتًا يُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولَهُ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُلْفُ (خلف الموعد)، وَلَا أَرَى حَبْسَ رَسُولِهِ إِلَّا مِنْ سَخْطَةٍ كَانَتْ، فَانْطَلِقُوا، فَنَأْتِيَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إِلَى الْحَارِثِ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِمَّا جَمَعَ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا أَنْ سَارَ الْوَلِيدُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ، فَرِقَ (خاف)، فَرَجَعَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْحَارِثَ مَنَعَنِي الزَّكَاةَ، وَأَرَادَ قَتْلِي، فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَعْثَ (أرسل جيشا) إِلَى الْحَارِثِ، فَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بِأَصْحَابِهِ إِذْ اسْتَقْبَلَ الْبَعْثَ (الجيش) وَفَصَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ، لَقِيَهُمُ الْحَارِثُ، فَقَالُوا: هَذَا الْحَارِثُ، فَلَمَّا غَشِيَهُمْ (جاءهم) ، قَالَ لَهُمْ: إِلَى مَنْ بُعِثْتُمْ ؟ قَالُوا: إِلَيْكَ، قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَعَثَ إِلَيْكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَزَعَمَ أَنَّكَ مَنَعْتَهُ الزَّكَاةَ، وَأَرَدْتَ قَتْلَهُ قَالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، مَا رَأَيْتُهُ بَتَّةً ، وَلَا أَتَانِي فَلَمَّا دَخَلَ الْحَارِثُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ” مَنَعْتَ الزَّكَاةَ، وَأَرَدْتَ قَتْلَ رَسُولِي ؟ ” قَالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ، وَلَا أَتَانِي، وَمَا أَقْبَلْتُ إِلَّا حِينَ احْتَبَسَ عَلَيَّ رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَشِيتُ أَنْ تَكُونَ كَانَتْ سَخْطَةً مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُولِهِ . قَالَ: فَنَزَلَتِ الْحُجُرَاتُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] إِلَى هَذَا الْمَكَانِ: {فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 8].

ولنا مع هذه القصة العجيبة الوقفات التالية:

أولًا: كان من الممكن أن ينزل الله هذه الآية بدون هذه المحنة، ولكن هذه سنة الله في تربية المؤمنين بالمحن.

ثانيًا: الآية نزلت بألفاظ عامة لا تختص بهذه المحنة، لتكون قاعدة عامة، وليكون القرآن دائمًا هو الحل لما نحن فيه.

ثالثًا: نادى الله علينا بوصف الإيمان (يا أيها الذين آمنوا)، ليربط الأمر بالتبين بالإيمان، فمن كان مؤمنا حقًا فليتبين.

رابعًا: الله رؤوف بنا لا يريد لنا أن نفعل ما نندم عليه بعد ذلك، فأمرنا بالتزام شرعه في طرق الإثبات، وتحري البينات.

خامسًا: الفسق هاهنا ليس مقصورًا على المعنى الخلقي فحسب، بل هو بمعناه اللغوي العام أي بمعنى: الانحراف عن الحق مطلقًا، ولو كان بطريق الوهم والخطأ، كما هو مفهوم من سبب نزول الآيات، ويدخل فيه الفسق الخلقي من باب أولى؛ فالصحابي الجليل قد أمنه الرسول على جمع الزكاة فهو ليس متهمًا عنده، فما بالكم بمن عرف عنه الكذب، وعهد عليه التزوير، واشتهر بالظلم، وخدمة الظالمين.

سادسًا: التبين يكون وفقًا للقواعد الشرعية لا بالهوى والتجسس، والإلزام بما لم يلزم به الشرع، فالبينة على من ادعى واليمين على من أنكر.

وأخيرً:. لا ضير إذا صدقنا من أمرنا الشرع بتصديقه، وكذبنا من أمرنا الشرع بتكذيبه، إذ لم يأت بالبينة (فَأُولَئِكَ عِنْد اللَّه هُمُ الْكَاذِبُونَ).. وما كان الله ليضلنا الله بعد أن حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا.. وما كنا لنندم على أن وفقنا الله لالتزام الشرع.. بل الضلال والندم كل الندم في اتباع الظنون، وموافقة الهوى، والاستماع لشياطين الإنس والجن، وتصديق الكاذب، وتخوين الأمين..

فيا من أحسن الظن بالمجلس العسكري وخدمه .. أولى لك فأولى أن تحسن الظن بالمؤمنين ..
ويا من تثبط المؤمنين الساعين لرفع الظلم عن الأمة .. أولى لك فأولى أن تأخذ على أيدي الظالمين.. حتى لا يعمنا الله بعذاب من عنده..
لنحيا كراما..


التعليقات