فوجئ الجميع بمبادرات حماس التي تقدمت بها لحلحلة الأزمة الفلسطينية بشكل عام وأزمة قطاع غزة بشكل خاص، وكان واضحاً أنها لا تحاول فقط أن تبقى ممسكة بزمام الفعل والمبادرة وإنما السبق بالتموضع والمناورة.
لعبت حماس لعبة غريبة متعددة الزوايا، فقد دشنت الجهاز الإداري منذ ستة أشهر تقريباً ثم فاوضت على حله، بمعنى أنها صنعت ما تُفاوض عليه كأن لم يكن موجوداً لتقليل خسائرها
وكانت خلاصة مبادرة القسام هي إحداث فراغ سياسي بالقطاع، أو بمعنى أصح التخلي عن السلطة -وبالتالي تبعاتها- وترك الضبط الأمني للفصائل ومن بينها حماس، إلا إنه لم يُعلن ساعتها عن التفاصيل الدقيقة لهذا التصور المبتكر بالفعل؛ ولكن ما جرى خلال الأيام الاخيرة وما يجري الآن قد يكون هو بعض التطبيقات العملية لمبادرة الفراغ تلك، أو التفريغ -بمعنى أصح- للشحن المكثف ضد الحركة بخنق القطاع من قبل مصر والسلطة وما تسمى بإسرائيل، وباختصار ما يجري هو تنفيذ حماس لخطة الفوضى الاصطناعية تلك بصورة أخرى، أي ما تمكن تسميته “الإدارة بالأزمة”.
وجدير بالذكر هنا أن ما تم ممارسته ضد حماس هو شبيه جداً بما مورس ضد الإخوان في مصر من تضييق لمعايش الناس حتى الوصول إلى مرحلة التدخل العسكري المقبول شعبياً بنسبة من النسب!
وواضح من اتخاذ حماس لهذه التدابير أن التجربة المصرية من بعد السورية أصبحتا عبرة لمعتبر، وأنموذجاً مرعباً للشعوب عامة وللحركات الإسلامية خاصة، وقد قامت حركة النهضة تونس بتراجع استراتيجي كامل في نفس هذا السياق؛ ولذا فالنهوض للقيام بالتغيير وعكس هذا الأثر النفسي والعملي في نفسية هذا الجيل؛ هو واجب تاريخي متحتم على رواد المرحلة، قبل أن يكون دعما لنضال هذه الامة وقضاياها المصيرية.
لعبت حماس لعبة غريبة متعددة الزوايا، فقد دشنت الجهاز الإداري منذ ستة أشهر تقريباً ثم فاوضت على حله، بمعنى أنها صنعت ما تُفاوض عليه كأن لم يكن موجوداً لتقليل خسائرها، كما تصالحت مع دحلان من جهة وسلطة عباس من حهة اخرى، وكلاهما حليف للنظام المصري/الإماراتي وللعدو الصهيوني.
فأما دحلان فدوره كضابط شرطة لضمان أمن إسرائيل في القطاع وضبط الحدود مع مصر وسيناء؛ خاصة مع بقاء كتائب القسام والجهاز التنفيذي، وأما عباس فلاستلام السلطة باعتباره الموظف العمومي الوحيد المعترف به إسرائيلياً وغربياً، وكلاهما غريمان وضدان لا يجتمعان، فكأن حماس تصد عباس بدحلان وتركل دحلان بعباس.
حماس لم تفاوض على سلاحها إذاً، إلا أنها قد تكون أعطت ضمانات بتحجيم هجماتها العسكرية -ولو لفترة- ضد الإسرائيلي لكي لا تُعْتَبر تلك الهجمات كتوابع للمصالح
وهنا يمكنني الجزم بأن خصوم حماس كانوا واعين جيداً لما تهدف اليه، ولعلهم أعدوا لذلك بدائل ومعالجات ليست هينة، ولكنهم سارعوا بقبول الفرصة وانتهازها لما فيها من مكسب وانهزام حماسي ولو تكتيكياً؛ عسى أن يستطيعوا إنهاء تفردها بالقطاع؛ مع ازدياد شعبية فتح وتمدد اذرع دحلان وتراجع شعبية حماس بصورة غير مسبوقة في عقر دارها، فضلاً عن حالة التفكك الإداري والضعف الشديد التي تعانيها في الضفة، وهي الحالة التي قد تمهد لضرب الحركة وإخضاعها.
ولا شك أن حماس تحتفظ ببدائلها أيضاً، إلا أنها قد لا يتسع لها الوقت لكثير من الأشياء، فإن لم تفاجئ العدو الإسرائيلي بضربات مهينة وموجعة فستفقد زخمها ودعمها، وسيكون انسحابها من السلطة انهزاماً في الساحتين السياسية والعسكرية، والقادم سيكون تدميرَ ترسانتها بالقوة، إن لم تسلمها طوعا
ومن الواضح حتى الآن أن حماس فاوضت على نزع السلطة بدلاً من نزع السلاح، كما أنه من المعلوم من تاريخها العنيد أنها طويلة النفس جداً، ولا تتعامل أبداً مع أية جولة على أنها الاخيرة، وهذا ما ضمن لها الاستمرار والبقاء حتى الآن.
حماس لم تفاوض على سلاحها إذاً، إلا أنها قد تكون أعطت ضمانات بتحجيم هجماتها العسكرية -ولو لفترة- ضد الإسرائيلي لكي لا تُعْتَبر تلك الهجمات كتوابع للمصالحة، وستبدأ على الفور المطالبات الإسرائيلية بنزع السلاح، وهو ما يصعب تصوره فحماس تعرف ان سلاحها هو ضمانها الوحيد للبقاء.
إلا أن ما نشرته كثير من المواقع الإخبارية عن تهديد القيادة السياسة للحركة ممثلة في السنوار بكسر رقبة من يعترض على ما أسماه “المصالحة” من داخل أو خارج حماس؛ وإن صح ذلك فهو أمر في غاية السوء في الحقيقة؛ إذ يوحي بوجود معارضة قوية على الأقل في الصفوف التحتية -إن لم تكن بعض القيادات- وهي رسالة عنيفة غاية في السلبية ولا تبشر بخير البته.
وهنا لا يفوتني انتقاد مبدأ المزايدات السقيم الذي صار سمة مقيتة ومريرة لهذه الأمة في زمن الانحطاط فتنظيم الدولة يزايد على النصرة وغيرها من الفصائل إذا تفاوضت مع العدو للانسحاب، بينما يزايد عليه الجميع إذا تفاوض هو مع حزب الله والنظام السوري للانسحاب، ثم يزايدون جميعاً على حماس إذا اضطرت لمثل ذلك؛ رغم أنه من المفترض أن الجميع في نفس الجبهة تقريباً وعلى نفس خط النار، لكنهم ذهبت بهم مذاهبهم وما أضل العقلَ إلا الهوى، ووراء كل فريق منهم يضل من الناس كُلُ مُضَلِلِ!!
وليس شراً من المزايدات سوى التبريرات، فليست حماس بممتنعة على النقد، وليست هي وريثة الوعد الإلهي ولا صاحبة العصمة، بل ان حزب الله اللبناني -والمعصومية من اعتقاداته- هتفت له الجماهير المسلمة -السنية منها قبل الشيعية- لما قاتل العدو الصهيوني، لأنه مثل لها قيادة تنتزع حقوقهم من مغتصبيها وتقوم بحق الأمة والملة في الجهاد والمقاومة، فلما أسقط اللعبة صانُعها في طهران ليدعم سفاح دمشق، لعنته الأمة وتركته ينزوي في ضيق طائفيته رغم تسربله سرابيل الحسين وقد ثجبت دماً، وليست حماس بعيدة عن ذلك إن تركت سلاحها أو بررت أخطائها وتدثرت بجماعتها.
التعليقات