خرافة الحديث باسم الله

“وفي رأينا أن الحكومة الدينية لم تتحقق في تاريخ الإسلام إلا على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حتى حكومة الخلفاء الراشدين الأربعة؛ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم تكن كذلك، بل كانت بشرية، وكانوا هم أنفسهم يصـرحون بذلك، أما حكم محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان مؤيدًا بـ”الوحي”، يدله على حكم الله في كل واقعة، ويهديه إلى الصواب في كل مشكلة، ويمده بالجواب الصحيح عندما كان يُسأل سواء من أتباعه أو خصومه، ويصحح له كل ما يفعله، ويرشده إلى الحق والعدل والصواب إلخ.

فهو إذن الحكم الوحيد الذي يمكن أن نطلق عليه “الحكومة الإلهية” أو “الحكومة الدينية”، والفترة التي حكم فيها يثرب هي التي يمكن أن تسمى بـ”مدينة الله”.

أما وقد انقطع الوحي بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى أي وفاته، فإن معرفة حكم الله في أي قضية أو نازلة أو مشكلة متعذر، بل هو مستحيل؛ لأن المرجع وهي “النصوص المقدسة” يختلف البشر فيها، لاختلاف مداركهم ومشاربهم ونزعاتهم ومصالحهم ومكانتهم في المجتمع أي مواقعهم الطبقية، يختلفون في تفسيرها ومن يدعي منهم أن تأويله هو الأصح المطابق لإرادة الرب الذي أنزل النص، أو الرسول الذي قال “الحديث” فإنه يكون متعسفًا”.

كانت تلك كلمات خليل عبد الكريم في كتابه “نحو فكر إسلامي جديد (1)”، والتي تعبر عن فكرة متداولة في الخطاب الإعلامي للتيار المدني العلماني، فهم يدندنون حول استحالة الوصول إلى القصد الإلهي، وأن من يفرض إمكانية ذلك فهو يدعي الحديث باسم الله، وذلك هو جوهر الدولة الدينية المرفوضة في عصرنا.

وهذه الفكرة تهدم بنيان الشريعة الإسلامية من أساسه، فالقصد الإلهي المطلوب معرفته في علم أصول الفقه هو الحكم الشـرعي، أي أن الحكم الشرعي هو مدلول خطاب الشرع. هذا هو التصور الذي قام عليه علم أصول الفقه، بل وعلم التفسير أيضًا؛ فهو ينبني على إمكانية معرفة القصد الإلهي إما على سبيل اليقين، أو على سبيل الظن الراجح، وكلاهما يسمى علمًا.
ونحن نسلم بأن طاقة البشر محدودة، والنقص وصف لازم لهم، وخالق البشـر -سبحانه وتعالى- له الكمال المطلق، ولهذا أخبرنا الله عز وجل أنه لا يستطيع أحد من البشر أن يحيط علمًا بالله، قال تعالى: “وَلَا يحيطون به علما“، وقال تعالى: “لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير“.

ولكن الإدراك هو الإحاطة، والرؤية الكاملة المستلزمة للإحاطة منفية، لا أن مطلق الرؤية منفي، حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أننا نرى الله ربنا يوم القيامة كما نرى البدر في الدنيا، كما جاء في الحديث الصحيح: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة -يعني البدر- فقال: “أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لاَ تُضَامونَ – أَوْ لاَ تُضَاهُونَ – في رؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا». ثُمَّ قَالَ «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» متفق عليه.

وهذا التفريق بين الرؤية المطلقة ومطلق الرؤية لا يختص بالرؤية، بل يتسع ليشمل أوجه العلم كلها، ولهذا قال تعالى: “ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء“، فالله سبحانه وتعالى نفى إحاطة العلم أو العلم المطلق، فلا أحد يستطيع أن يعلم كل شيء، أو كل شيء عن الله، ولكن هذا لا يقتضـي نفي مطلق العلم، فما من عاقل يقول إننا لا نستطيع معرفة أي شيء عن أي شيء، أو أننا لا نستطيع معرفة أي شيء عن الله.

وقد أخبرنا الله أنه هو الذي يُعلّم ويُفهّم، قال تعالى: “واتقوا الله ويعلمكم الله“، وقال تعالى: “فَفَهَّمْنَاهَا سليمان“، وهو سبحانه وتعالى الذي يعطي الحكمة لمن يشاء “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا“. والله أخبرنا أنه بعث الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ليعلموا الناس الكتاب والحكمة، قال تعالى: “كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون”.

فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم علمنا ما أراده الله تعالى منا، بل وما أراده من الأمم السابقة، قال تعالى: “وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة“. فهل يقول عاقل -فضلًا عن مسلم- إننا لا نستطيع أن نجزم بأن الله قصد وأراد من عباده أن يوحدوه ويعبدوه وحده، ولا يشركوا به شيئًا.
ثم إن من المعلوم من الدين بالضرورة أن الله أنزل القرآن على نبيه بلسان العرب، قال تعالى: “إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون” ليفهموا مراد الله، ويقوموا به، ولم يكن هذا الأمر خاصًا برسول الإسلام وخاتم الأنبياء، بل كل المرسلين أرسلهم الله ليعلموا أقوامهم بلغتهم التي يفهمون ألفاظها ومعانيها جيدًا، قال تعالى: “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم“.

فالبيان الذي هو الإفصاح عن المراد والكشف عن القصد، هو الغاية التي من أجلها تستعمل اللغة، وهذا من أجلِّ نعم الله على الإنسان، قال تعالى: “خلق الإنسان علمه البيان”، ولا تكون اللغة كذلك إلا إذا كانت الألفاظ وما تدل عليه معلومة للمخاطب، إما بنفسها، أو بما يحفها من قرائن، والمراد بها يسير فهمه “لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد”.

وعليه فتصور نزول القرآن بلسان العرب كاف في إثبات إمكانية الوصول إلى القصد الإلهي، بل وجوب استعمال العقل في معرفة مراد الله من العباد. فإذا أضيف إلى ذلك أن هذا القرآن مبين، وأن وظيفة الرسول هي التبيين، لم يعد هناك ما يدعو إلى الاسترسال في تلك الخرافات الفكرية.

فإذا علمت أن الابتلاء هو الغاية من وجود البشـر على وجه الأرض، قال تعالى: “لنبلوهم أيهم أحسن عملا“، فإنه لا يتصور الابتلاء إلا بمعرفة المبتَلى بقصد المبتلِي في أمره ونهيه، حتى يتحقق معنى الابتلاء، وما يترتب عليه من الثواب والعقاب. فمن وافق فعله إرادة الله الشرعية فقد فاز، ومن خالف فقد عصى واستحق العقاب. والأمر إذا لم يكن واضحًا المراد منه، مبينًا لقصد الآمر من لم يكن حجة على المأمور، وجاز أن يتذرع بأنه وافق الأمر حسب فهمه واجتهاده، وهذا ما لم يحدث أبدًا.

حتى إبليس لم يدّع هذا الادعاء، الذي هو نسبية الفهم وتغيره، عندما سأله ربه: “قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك“، وصرح بالدافع الذي توهمه، والذي يدل على استكباره على الأمر: “قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين“. فما بال أولئك القوم فاقوا إبليس، وادعوا أن من حقهم أن يفهموا الأمر كما أرادوا هم، لا كما أراد الله!
ومن المعلوم أن الحديث باسم الله هو نتاج عقيدة باطلة سوغ بها رجال الكنيسة في العصور الوسطى أكثر انحرافاتهم، فهم يؤمنون بمبدأ “التوسط بين الله والخلق”، ويمنحون لرعاياهم صكوك الغفران، أما في الإسلام فالعلماء ورثة الأنبياء، وهم أدلة على الله، لا وسطاء بينه وبين الناس، فما وجه المقارنة؟
اللهم إلا التغريب الأعمى!


التعليقات