لن يمكن فهم حقيقة الجدل الدائر حول كثير من القضايا مثل منع برقع المرأة في تونس والنقاب في مصر وتجريم الختان وتوثيق الطلاق… الخ، إذا لم نربطه بالتدافع الفكري بين الإسلاميين والعلمانيين حول الشريعة. المعارضون لصلاحية تطبيق الشريعة في عصرنا الحالي يحتجون بحجة مفادها أن الشريعة المراد تطبيقها ليست هي الشريعة الربانية، إنما هي فهم البشر للنصوص ومن ثم فهو تشريع بشـري في الحقيقة ! ولكنه – رغم بشريته- يزعم لنفسه قداسة مستمدة من الوحي الرباني، ويهدد بهذه القداسة من يعارض فيتهمه أنه خارج على الدين، بينما التشريع البشري الوضعي الذي يصنعه البشر أنفسهم غير مستندين فيه إلى الدين- أو مستندين إلى البعض دون البعض الآخر – لا قداسة له عند واضعيه ولا عند معارضيه، ومن ثم يناقش بحرية، ويعدل أو يلغي إذا اقتضت الضرورة بغير تحرج ولا خوف ! والأولى أن يعامل ما سموه الفقهاء بالشـريعة كما يعامل القانون الوضعي؛ لأن الشريعة في الحقيقة ما هي إلا تعبير عن فهم أولئك الفقهاء المختلفين فيما بينهم، فينبغي أن نأخذ من اجتهاداتهم ما يناسب عصرنا وندع ما لا يناسبنا دون حرج أو خوف من الاتهام بالكفر والمروق من الدين.
ولا يملك المسلم الواعي إلا أن يعقب على هذه الحجة الواهية بقوله: أي لعب بالعقول أشد من هذا اللعب؟!
من الذي أمرنا بالتوحيد وحرم الشرك.. الله أم الفقهاء؟!
من الذي أحل البيع وحرم الربا.. الله أم الفقهاء؟!
من الذي أحل الزواج وحرم الزنا.. الله أم الفقهاء؟!
من الذي أحل الطيبات وحرم الخمر.. الله أم الفقهاء؟!
من الذي أحل الزينة وحرم التبرج.. الله أم الفقهاء؟! من.. ومن.. ومن؟!!
ثم أهذه الأحكام في الدين أم في الدنيا؟
وهل من فارق حقيقي بين من رفض اتباع الشرع بحجة بشرية من نقله إلينا، وبين من قالوا لرسلهم: ﴿إن أنتم إلا بشر مثلنا﴾. إن اختلاف الأفهام حقيقة، واختلاف الاجتهادات حقيقة، ولكن فيما لم ينزل فيه نص قاطع، وحتى في مسائل الاجتهاد من يستطيع أن يقول – مهما اختلفت الأفهام واختلفت الاجتهادات – إنه لا فرق بين الاجتهاد المنضبط بمحكمات الشرع، وآراء الرجال المنفلتة من كل ضابط إلا أهواء الناس التي يسمونها “المصلحة”، وهي حقًا مصلحة ! ولكن مصلحة فريق معين من البشر يعيثون في الأرض فسادًا ويريدون أن يستحمروا “الأميين” لحسابهم الخاص؟!.
إن اختلاف الفقهاء هو من مزايا هذا الدين، أفتتخذ هذه التوسعة -المنضبطة أولًا وآخرًا بألا تحل حرامًا أو تحرم حلالًا- ذريعة للتسوية بين حكم الله وحكم القوانين الوضعية، بل لتفضيل القوانين الوضعية على حكم الله مع كل ما تحمله تلك القوانين من ألوان الفساد؟!
وكفى بتنزيلها منزلة ما أنزل الله فسادًا وكفرًا بالله العظيم.. وكأني أسمع صوت العلمانيين المطالبين بحرية الرأي واحترام وجهات النظر وهم يطالبون بالاعتراف بالرأي الأخر بدلًا من توزيع الاتهامات بالكفر و المروق من الدين،
والجواب كما يقول الأستاذ محمد قطب في كتابه “العلمانيون والإسلام”: «مرحبًا بالرأي والرأي الأخر حين يكون بين بشر وبشر، فليس من حق البشـر أن يدعي العصمة لنفسه ولكلامه ويهمل كلام الآخرين لمجرد أنهم يخالفون في الرأي، إنما الدليل هو الذي يقرر أي الرأيين أقرب إلى الصواب. أما حين يكون الأمر بين كلام الله وكلام البشـر فمن ذا الذي يبلغ به التبجح أن يقول أنه أعلم من الله، وأن كلام الله لا يلزمه لأنه مجرد وجهة نظر؟!».
«إنهم يريدون أن يكون (الدين) وجهة نظر ! إحدى وجهات النظر المعروضة في الساحة ! وهناك معه وجهة نظر أخرى ورأى أخر، والإنسان حر يأخذ (بوجهة نظر الدين) أو (بوجهة النظر الأخرى).. وحبذا – لكي يكون حر الفكر – أن يأخذ بوجهة النظر الأخرى وينبذ وجهة نظر الدين بغير تحريج على عمله هذا ولا تأثيم. هذه هي القضية في حقيقتها، يجهر بها بعضهم أحيانًا، ويغلفها الآخرون بغلاف لا يغطي حقيقتها».
وهكذا يتحول كلام الله الحق إلى وجهة نظر، ثم يتحول – بالمواظبة – إلى وجهة نظر منبوذة لا يؤخذ بها، بل يعدل عنها إلى وجهة النظر الأخرى. وبذلك تسبغ الشرعية على القوانين الوضعية. إن المدافعة الفكرية بين العلمانيين والإسلاميين تدور حول المعيار والمرجعية، فالإسلاميون يعتمدون مرجعية الكتاب والسنة في جميع التشريعات، بينما يرفض العلمانيون اعتماد النصوص الدينية كمرجعية شاملة وسلطة عليا، فلا صوت يعلو فوق صوت العقل، ولو كان وحيًا من الله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
يقول الدكتور نصر أبو زيد في كتابه “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية”: «يرتبط بمفهوم “سلطة” النصوص مفهوم “المرجعية الشاملة” للنصوص، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، أو تعبيران عن جانبي مفهوم واحد، وفي تقدير الباحث أن هذا المفهوم ليس مفهومًا دينيًا، بمعنى أنه لا ينتمي إلى مجال الدين والعقيدة، بقدر ما ينتمي إلى التاريخ الاجتماعي للمسلمين».
ويقول في كتابه “نقد الخطاب الديني”: «وهنا نأتي لالتباس آخر في اشتقاق كلمة “علمانية” هل هي العِلمْ أم العالَم، والأساس الاشتقاقي هو من “العالَم” وليس من “العلم”، وإن كان هذا لا يعني أن دلالة الكلمة في تطورها التاريخي مفصولة عن دلالة “العلم”، إن الاهتمام بالعالم وبشؤونه وبالإنسان بوصفه قلب العالم ومركزه، هو جوهر دعوة “العلمانية”، وكان هذا الموقف مناقضًا لموقف الكنيسة الذي يجعل من “الآخرة”ومن “العالم الآخر” الهدف والغاية».
ويقول الدكتور حسن حنفي في كتابه “التراث والتجديد”: «نشأت العلمانية استردادًا للإنسان لحريته في السلوك والتعبير وحريته في الفهم والإدراك، ورفضه لكل أشكال الوصايا عليه ولأي سلطة فوقه إلا من سلطة العقل والضمير. العلمانية إذن رجوع إلى المضمون دون الشكل، وإلي الجوهر دون العرض، وإلي الصدق دون النفاق وإلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته، وإلي الإنسان دون غيره. العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمع وتوقفها عن التطور».
ويقول أحمد عبد المعطي حجازي في مقاله “نحن في حاجة إلى فقه جديد”: «وبوسعنا أن نحدد مواقع الصدام بيننا وبين الحضارة الحديثة يما يلي: الحكومة الدينية، وتطبيق الشريعة أو إقامة الحدود، حقوق الإنسان، ووضع الأقليات الدينية في المجتمعات الإسلامية، ووضع المرأة المسلمة، علاقة المسلمين بالمجتمعات الأخرى، وبوسعنا أن نجمل هذا كله في مسألة واحدة جامعة هى العلمانية وفصل الدين عن الدولة. إن الاتفاق على إبعاد الدين عن السياسة وعدم الخلط بينهما إجابة أولى أساسية لابد من الوصول إليها والاتفاق عليها حتى يمكن أن نجيب بعدها على بقية المسائل التي تعتبر فرعية بالقياس إلى المسألة الأولى وهى العلمانية».
إن الإصرار على إخراج أمور الدنيا من الدين، ما هو إلا محاولة لتمرير العلمانية في ديار المسلمين فكريًا بعد أن طبقت واقعيًا في مجال التشريع والحكم في جل بلاد المسلمين؛ إنها محاولة لانتزاع العقيدة الإسلامية من الصدور بعد انتزاع تطبيقها في الواقع، فالمسلمين وإن أجبروا على الحكم بغير ما أنزل الله، فما زالت جوانب حياتهم تخضع لتلك الشريعة، وهذا ما يفزع العلمانيين ويقلقهم.
التعليقات