دأب دعاة القراءة العصرية للنصوص الدينية على ترديد أن القرآن منتج ثقافي، وهذا يعني عندهم أنه تشكل في واقع جماعة من البشر، في مرحلة تاريخية معينة، وثقافة خاصة بتلك الجماعة في هذا المكان والزمان. وقالوا: أن القرآن “تأنسن” منذ أن نزل بلغة البشـر، تلك اللغة التي تنتمي إلى الثقافة باعتبار أن اللغة هي الدال والثقافة هي المدلول، فإذا نزل القرآن بلغة العرب فهذا يعبر بالمقام الأول عن ثقافة المتخاطبين بتلك اللغة. وهذا القول في حقيقته يمثل الوجه الآخر للقول ببشـرية القرآن.. ولا يبعد كثيرًا عما حكاه القرآن على لسان الأسلاف: (إنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ).
وقد تأخذ بعض القراء الدهشة إذا ما علموا أن فكرة بشرية القرآن وعلاقته بالثقافة التي نزل فيها ليست من ابتكار أو ابتداع أولئك المعاصرين، وإنما لاكتها قبلهم ألسنة المستشرقين، وتلقفتها تلامذتهم في الداخل، فنقلوا تلك الفكرة بعد إعادة صياغتها لتناسب البيئة ذات الطابع الإسلامي التي ستلقى فيها. وقد عرض الدكتور محمد البهي في كتابه “الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي”، والذي صدرت طبعته الأولى سنة 1376هـ- 1957م، لفكرة “بشرية القرآن” وبين أنها تُعرض في إحدى صورتين:
الصورة الأولى: أن القرآن “انطباع” في نفس النبي محمد نشأ عن تأثره ببيئته التي عاش فيها، بمكانها وزمانها، ومظاهر حياتها المادية والروحية والاجتماعية.
والصورة الثانية: أنه “تعبير” عن الحياة التي عاش فيها النبي محمد بما فيها المكان والزمان، وجوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والدينية والاجتماعية.
وإحدى الصورتين ملازمة للأخرى، فإذا كان القرآن انطباعًا منبثقًا من البيئة فهو يعبر عن ذات هذه البيئة، وبالعكس إذا كان تعبيرًا عن البيئة فقد انطبع أولًا بلا شك في نفس قائله قبل أن يعبر به وقبل أن يقوله! ويتوقف اختيار إحدى هاتين الصورتين على الأخرى لدى الكاتب الذي يرى “بشـرية القرآن” على أحوال البيئة التي يعلن فيها الكاتب الرأي.
فإذا كانت بيئة أجنبية غير مسلمة: أمكن مواجهتها بالصورة الأولى وهي أن القرآن انطباع نفسي!! أما إذا كانت بيئة إسلامية: فيقتضي هذا الأمر أن يتبع فيها أسلوب اللف والمداورة، والصورة الثانية هي الأليق بهذا الأسلوب، وهي أن القرآن يعبر عن الحياة الجاهلية -أي حياة ما قبل الإسلام- أصدق تعبير! فعلى سبيل المثال نجد المستشرق الانجليزي “جب”، أستاذ الدراسات العربية بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية في كتابه “المذهب المحمدي” قد آثر الصورة الأولى بأسلوب يبدو فيه تجنب للألفاظ النابية فيما يحكيه عن الرسول، وتجنب الصراحة المكشوفة فيما يريد أن يودعه في نفس القارئ… فالقرآن كما يريد “جب” أن يقول إذن هو من عمل “إنسان”: إنسان معين هو “محمد”، عاش في حياة خاصة وهي حياة “المكيين”، وتبلورت حياته الخاصة هذه فيما قاله فيه!
أما الصورة الثانية للرأي القائل بـ “بشرية القرآن”، وهي أنه تعبير عن الحياة التي وجد فيها “الرسول”، وهي حياة ما قبل الإسلام، فيحكيها كتاب “الشعر الجاهلي”. ولعل إهداء الكتاب وقت نشره إلى صاحب السلطة الحكومية في ذلك الوقت يشعر بأن الفكرة التي تروى فيه ليس لها مكان في الجو الإسلامي الخالص، ولذا تحتاج لشيء من حماية السلطة السياسية! ويقوم هذا الكتاب على فكرة واحدة هي: أن الشعر الجاهلي لا يمثل حياة العرب قبل ظهور الإسلام، فحياة العرب في الجاهلية كانت حياة حضارية، والعرب كما يقول المؤلف: (لم يكونوا على غير دين، ولم يكونوا جهالًا ولا غلاظًا، ولم يكونوا في عزلة سياسية واقتصادية بالقياس إلى الأمم السابقة الأخرى.. كذلك يمثلهم القرآن!). ومعنى هذا القول، كما يريد المؤلف أن يفهم قارئه، أن القرآن انطباع للحياة القائمة في وقت صاحبه وهو النبي.. وهو يمثل لذلك بيئة خاصة في عقيدتها ولغتها وعاداتها، واتجاهها في الحياة، وهي البيئة العربية في الجزيرة العربية !
وطالما حدد الكتابان القرآن بالبيئة العربية، فما وراء ذلك من اختلاف لا يحدث فرقًا أصيلًا بينهما؛ وبيئة الكاتبين هي التي أدت إلى كل منهما بالاختلاف في التعبير على نحو ما رأينا. وبقليل من التأمل نجد أنه لا معنى للقول بانتماء النص لثقافة بعينها سوى أن المتكلم -قائل النص- يخضع للآفاق الخاصة بقومه، المحدودة بحدود الزمان والمكان، أما تأثر النص بثقافة المخاطب فهو في الحقيقة لعب بالألفاظ؛ لأن النص يتأثر بثقافة المتكلم -قائل هذا النص- ومن ضمن مكونات تلك الثقافة ما تكون لدى المتكلم من تصور معرفي خاص بالمخاطب، والذي على أساسه توجه إليه الخطاب، وقد يكون المتكلم مصيبًا في تصوره أو مخطئًا، ولكن النص بأي حال لا يمكن أن يكون ناتجًا من واقع المخاطب.. وسواء اختلف بيئة المتكلم عن بيئة المخاطب أو اتحدتا، فإن النص تابع لقائله ومعبر عنه، نعم قد يراعي النص أحوال المخاطبين -وقد لا يراعيها- ولكن المراعاة شيء والتعبير عنه شيء آخر، فلا أحد يعبر عن وجهة نظره تجاه هذا الغير دون أن يعبر عن نفسه أيضا عندما يتكلم عن غيره.
ونحن نرى في محيطنا المعرفي خطابات عدة، منها ما يكون هدفه إرضاء مشاعر المخاطبين، ومنها ما يكون مثيرًا لغرائزهم، ومنها ما يكون مرشدًا لهم وتوجيهًا لسلوكهم، ومنها ما يكون للعامة ولا يضيف جديدًا للخاصة، ومنها ما يكون للخاصة ولا يفهم العامة منه شيئًا، وإن كتب بنفس حروف لغتهم، ولكن بمستوى معرفي لا يصلون إليه، وكل هذا محكوم بعلم المتكلم بالمخاطبين، وقدرته على استعمال قوانين اللغة لتحقيق الهدف من الخطاب، إلا أن أبرز ما ينبغي الإشارة إليه هو أن هذا التعدد في مستويات الكلام لا ينفي وحدة اللغة، أي أن اللغة وإن مثلت إطارا مشتركًا يربط بين المتكلم والمخاطب، ولكن التعبير من خلالها أو صياغة كلام باستثمار مفرداتها مرهون بالمتكلم وحده؛ لأنه هو الذي يستعمل تلك اللغة كأداة لتوصيل مراده إلى المخاطب، وفصاحة المتكلم تتمثل في الاستخدام الأمثل لمفردات اللغة وقوانينها، لإيصال ما يريده بدقة إلى عقول المخاطبين.
والقرآن أنشأ ثقافة الإسلام -إن جاز التعبير- التي تقوم على أسس غير تلك الأسس التي قامت عليها ثقافة المخاطبين. والإسلام لا يتغير بتغير البيئات؛ لأنه خاطب ما لم يتغير في الإنسان، فالكل مخاطب بالقرآن. والذي يحصر القرآن في ثقافة العرب بعينها، فقد وقع بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يقول أن غير العرب غير مخاطبين بالقرآن، ولا يقوله مسلم، أو يقول أن القرآن ما راعى أحوال المخاطبين بعد عهد النبوة، وبهذا يكون قد طعن في القرآن، وفي علم الله تعالى الذي يعلم حال المخاطبين إلى يوم القيامة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وثم دليل آخر حاسم يبرز امتلاك المتكلم للنص، ويبطل القول بأن القرآن منتج ثقافي، وأن الواقع هو الذي قام بتشكيله، هذا الدليل هو إعجاز القرآن لفصحاء العرب، وتحديهم أن يأتوا بسورة من مثله، بل والجزم بأنهم عاجزون عن ذلك، مع أن اللغة المستخدمة هي نفس لغتهم بحروفها وكلماتها وأساليبها. ومن ثم تبطل الشبهة.. ويستبين الحق لكل ذي عقل.
التعليقات