نحو عقل عربي رشيد: هل التراث عائق أمام التقدم؟

«فإذا كان التقدم يشير إلى المستقبل ويدل على الحركة، فإن “التراث” يشير إلى الماضي ويدل على السكون والخمود، وكأن العربي قد كتب عليه دون البشـر كافة أن تسير قدماه إلى الأمام بينما يلتفت رأسه إلى الخلف،فلا هو يحقق التقدم ولا يقنع بالحياة التي ورثها عن الأسلاف».

هذه كلمات الدكتور نصـر أبو زيد في كتابه “النص والسلطة والحقيقة” وهي تعبر عن فكرة يتم تسويقها في كثير من المنابر الإعلامية.. ويمكم مناقشتها في النقاط التالية:

أولًا: القول بأن التراث يدل على الماضي بإطلاق لا يصح، لأن التراث هو الميراث الذي يرثه الخلف عن السلف، ولا يقال على الشـيء الذي انقطع في الماضي ولم يعد له أثر وامتداد في الحاضر، فالمال المنفق والمجد الضائع الذي انقطعت أسبابه لا يسمى ميراثًا أو تراثًا، فلابد من وجود للشيء في الحاضر حتى يسمى تراثًا.

ومن هنا يتبين مدى زيف الفكرة القائلة بأن التراث شيء انقضـى ولا سبيل إليه ويجب التخلي عنه وعدم الالتفات له.

ثانيًا: إذا كان القول بأن الموت يدل على السكون والخمود قول مقبول، فإن اعتبار الماضي يدل على السكون والخمود مرفوض، لأنه ليس كل ما مضـى انقطع أثره، وكلامنا منصب على التراث الذي بقى أثره لحاضرنا، فلا وجه لدعوى دلالة التراث على السكون والخمود وأنه مناقض للتقدم الذي يشير إلى الحركة والمستقبل.

بل إن الحركات النهضوية والتي وصفت في العصر الحديث بالمتقدمة قد انتقت من ماضيها ما يكون أساسًا لحاضرها ومستقبلها، بغض النظر عن الأسباب والدواعي التي انبنى عليها هذا الانتقاء.

يقول الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه “التراث والمعاصرة”: لقد سعى العلماء في عصر النهضة الأوربية لتوثيق علاقتهم الفكرية والنفسية بتراث الرومان واليونان، متجاوزين تاريخ النصرانية والكنيسة؛ بسبب حالة العداء بينهم وبينها، فكان هدفهم إحياء التراث الوثني وإبرازه لقطع الصلة بالحاضر والماضي النصـراني، لذلك صاحبت حركة الإحياء حملة عنيف على الكنيسة النصرانية وقيمها.

ثالثًا: إذا صوبنا النظر نحو أمتنا وجدنا فيها من يدعو إلى إحياء التراث ولكن ليس الإسلامي بل الشعوبي العرقي العنصري البغيض، كالفرعونية في مصـر، والأشورية والبابلية في العراق، والطورانية في تركيا. والعجيب أن دعاة هذا الإحياء – القاتل للدين – هم من حملة رايات التقدم والحرية والنهضة والتنوير… الخ. وهم في مثل هذا مقلدون – لا مجددون كما يدعون- للحضارة الغربية ومتبعين لسنن نهضتها، فهم يحيون التراث الوثني الشـركي، ويريدون أن يتجاوزوا الإسلام كما تجاوز إخوانهم في أوروبا النصرانية.

وهذا هو العمى بعينه عمى التقليد الذي لا يحسن أن يفرق بين حضارة الشـرق وحضارة الغرب، وقيم هؤلاء ومعتقدات أولئك، ومن قبل ذلك لا يحسن أن يفرق بين الإسلام والنصرانية.

وقد ظهر لنا بجلاء أن الماضي المذموم عندهم هو الدين لا غير، وجدير بالذكر أن القوم ليسوا سواء في موقفهم الرافض للتراث للإسلام، فهناك تيار يرى في التراث الإسلامي كله معوق للوصول إلى النهضة التي لن تحدث -في رأيه- إلا بمتابعة خطا الحضارة الغربية، وهو طريق مضمون النتائج وهؤلاء غالبًا يفصلون بين القرآن وبين السنة، ويشككون في حجية السنة وما وصل إلينا منها، ثم يعمدون إلى القرآن فيحرفون معظمه بحجة التأويل تبعًا لمقتضيات العلم.

وهناك أصحاب الحلول التوفيقية يمثلون تيارًا انتقائيًا يسعى للتوفيق بين قيم التراث والحضارة الغربية، وهو يقترب مرة من الاتجاه السلفي عندما يسلم بالوحي الإلهي ودوره في بناء حضارة إسلامية معاصرة، ويقترب أخرى من الاتجاه الرافض للتراث بمعناه الشمولي عندما يجعل الانتقاء يمتد إلى الوحي الإلهي نفسه، يعامله مثل بقية المعطيات الأخرى.

وأحيانًا يشتد التناقض في ذهنية بعض التوفيقيين، ويحاولون الخلاص باقتراح الفصل بين القرآن والسنة باعتبارهما وحيًا إلهيًا، وبين النتاج الثقافي والحضاري في التراث، ليتم الانتقاء والنقد بحرية دون المساس بالعقيدة الدينية.. والحق أن هذا الرأي يبعد عن واقع المشاكل الحقيقية، لأن الفصل غير ممكن عمليًا، ولأن النقد يمكن أن يتعرض للعقيدة والشـريعة من خلال نقد قيم التراث المستمدة من الوحي الإلهي.

إنه لا سبيل لنا -إن أردنا نهضة حقيقة- إلا العودة إلى الكتاب والسنة والأخذ عنهما وفق مناهج السلف في الاستنباط والفهم، وإعطاء التراث الفقهي العظيم حقه وقدره، والإفادة منه بمرونة دون أن يحل محل الكتاب والسنة، ودون أن يقف موازيًا لهما في قوة الإلزام، مع التحذير من الاجتهاد في دين الله دون علم، ودون ضوابط أصولية، ودون استكمال العدة اللازمة للترجيح والاجتهاد، فإن العودة إلى ينابيع الشريعة والاستقاء منها مباشرة دون ضوابط دقيقة وكفاءة عالية يؤدي إلى الفوضى الفكرية والدينية والفقهية، ويملأ مجتمعنا بالمفتين والمجتهدين المتعارضين في أقوالهم واجتهاداتهم.

رابعًا: إن هؤلاء المبطلين روَّجوا باطلهم بتحسين ما هم عليه بأوصاف إذا سمعها الجاهل هالته واغتر بها وظن صدقها، وكل منصف عارف يعرف كذبها وبطلانها، فزعموها تجديدًا ورقيًا ونهضة، وتقدمًا إلى الأمام، ونورًا بعد ظلام …إلخ. وأما البصير العاقل فيعلم أن كل تقدم ورقي فالدين فقد أتى به على أكمل الوجوه وأسلمها من الضرر والفساد.

فمن تمسك بالدين واعتصم برب العالمين ولزم صراطه المستقيم فهو المتقدم، ومن فرط وابتعد عن الصراط فقد تأخر وانتكس، قال تعالى:(لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)..

فالتقدم الصحيح هو صلاح الدنيا والآخرة، والدين إذا صلح صلحت الدنيا؛ فإن الدين أمر بإصلاح الدنيا الإصلاح الحقيقي النافع عاجلًا وآجلًا، والدين هو أعظم قوة تدفع العباد إلى التقدم الصحيح ماديًا كان أو روحيًا، فلله الحمد والمنة.

ومقارنة سريعة – ولكن فاحصة – بين أصحاب التقدم الحقيقي والتقدم المزعوم تكشف لك عن الحقيقة، ولولا أن الباطل قد زخرف وروج بالعبارات والدعايات المتنوعة ونصـرته الدول المنحرفة – الموسومة زورًا وبهتانًا بالمتقدمة – لم يقبله عاقل ولا أصغى إليه لبيب.

فلينظر كل عاقل ليرى بعين البصيرة ماذا فعل بهم التقدم. لقد طغت علوم المادة، وأهملت الروح وانحلت الأخلاق، وشاعت الإباحية والفوضوية الضارة المهلكة، وأصبحت العبثية بكل شريف دينهم، حتى تفاقم الشـر وعم الطغيان واضمحل الخير، حتى المخترعات التي تكبروا بها وطغوا وبغوا هل توسلوا بها إلى الخير والرحمة، أما صارت أكبر نكبة على البشـر وأعظم مصيبة إنسانية؟! فأين العقل، وأين العلم؟! إن من أكبر الدلائل على رشد الرشيد وسفه السفيه تصرفاته ونتائج أعماله وثمراتها.

انظر إلى أحوال الرسل وأتباعهم كيف هدوا إلى كل عقيدة صالحة نافعة وإلى كل خلق جميل وعمل صالح، وكيف نهوا وحذروا عما يضاد ذلك ويناقضه، وكيف نشـروا الصلاح والرحمة والحكمة على البلاد والعباد، وكيف تم بإرشادهم الصلاح والفلاح والسعادة العاجلة والآجلة. فلا تجد علمًا نافعًا، أو خلقًا فاضلًا، أو خيرًا شافيًا، أو شرًا مدفوعًا، أو ضررًا مرفوعًا إلا بسبب الرسل، وإرشادهم وسعيهم.

فإذا كان هذا هو التراث الذي يدل على الماضي -بتعبيرهم- وذلك هو التقدم الذي يشير إلى المستقبل، فأسال الله العظيم أن يرزقنا ماضينا، وأن يعصمنا من مستقبلهم.


التعليقات