إن ما يحدث الآن في مصر من مسخ وتشويه لهوية المجتمع يصل إلى حد الفجور السياسي والإعلامي.. والفجور هو الفسق المشتهر، ولا يسمى الفاسق فاجرا إلا إذا أعلن بفسقه واشتهر، ولذلك فكل فجور فسق.. وليس كل فسق فجورا.
وفرق بين ما كان من الفجور بدافع الطبيعة البشرية على المستوى الفردي وما تعدى ذلك إلى أن يصبح سياسة إعلامية ممنهجة، تؤسس لأيديولوجية تم تبنيها رسميا من قبل النظام الحاكم. وهنا مكمن الخطورة لأن ذلك لا يؤدي إلى إشهار الفساد في المجتمع فحسب، ولكنه يرمي بذلك إلى محاصرة قوى الخير فيه والقضاء على حاسة النقد في الضمير الاجتماعي.
تلك الحاسة -كما يقول الدكتور فريد الأنصاري- التي يتأسس عليها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا هما فجوران لا فجور واحد. إن تحويل الفجور إلى فلسفة وممارسته ثقافة وأخلاقا من جهة، ومقاومة الإصلاح الشرعي من خلال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة أخرى، كل ذلك ليس له إلا غاية واحدة هي مسخ ثقافة المجتمع المصري، والدين في القلب من تلك الثقافة، وترسيخ فلسفة الانحلال والانسلاخ من هوية المجتمع، وتشويه السلوك الصالح.
إن ما يحدث في مصر الآن حدث فيها من قبل على يد فرعون كما ذكر القرآن الكريم” فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون” وهو يهدف بذلك إلى نشر الدعاية السوداء ضد الصلاح والمصلحين، ليقتل الحاسة النقدية في المجتمع ويتفرد بالقرار الضال المضل “قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”.
وهكذا يصبح الفساد رشادا بواسطة الفجور السياسي والإعلامي. إننا في الحقيقة نواجه حرب إشاعة الفجور والتدمير الشامل للأخلاق المؤسسة على الدين أعلنها النظام البائد ويحمل رايتها الآن التيار العلماني.
والمتأمل في الفجور السياسي والإعلامي في مصر على مدى الأعوام الثلاثة الماضية يشهد تصاعدا تدريجيا في التأسيس للعلمانية حتى بلغ الأمر مداه بتعيين وزير للثقافة يجهر بأن مصر علمانية، مما دعى الدكتور مراد وهبة ليؤرخ بمقاله “العلمانية في زمن السيسي” المنشور في جريدة الأهرام الصادرة بتاريخ 13/ 10 /2015 لعصر علماني جديد في مصر، يصرح فيه بأن المعركة إنما هي بين العلمانية والأصولية الإسلامية، ويعرض لجهوده في تأسيس العلمانية في مصر في العقود الثلاثة الماضية، و يختم مقاله بأن التحدي الحضاري لمصر والبلدان الإسلامية في تبني العلمانية الغربية.
ورسمية الجريدة لم تعد تمنع من أن يقترن الترويج للعلمانية بالطعن في بعض المقدسات كما حدث في مقال سابق لهاني عمارة في نفس الجريدة بعنوان “العلمانية سيئة السمعة” حيث ختم المقال بتذكيرنا بأن المسلمين هم الأمة الوحيدة التي تحتفل بالذبح والدماء إشارة إلى عيد الأضحى.
ولا عزاء للأزهر عند مراد وهبة، فقد وضعه في صف الأصولية التي عملت على إجهاض المحاولات العلمانية المستنيرة في مصر، فهو الذي فصل الشيخ علي عبد الرازق بسبب كتابه “الإسلام و أصول الحكم” وهو الذي وقف في وجه طه حسين بسبب كتابه “الشعر الجاهلي”، و هو الذي انتصب لدعاوى نصر حامد أبو زيد حتى حكمت المحكمة بالتفريق بينه وبين زوجته لردته إلخ.. فالأزهر المرحب به اليوم غير الأزهر المندد به بالأمس!!
ويكشف لنا وهبة عن أهم مزايا العلمانية؛ وهي تمييع الفوارق بين الأديان وإزالة الحواجز بين الإيمان والكفر، فالدين يحكم على مخالفه بالكفر ويجعل فارقا بين الحق والباطل، بينما العلمانية تؤمن بالنسبية فما هو حق اليوم قد يكون باطلا غدا والعكس، فلا تكفير في العلمانية.
وهي نفس الأفكار التي تتبناها كافة الرموز العلمانية، فلم ينقطع التباكي في الصحف الرسمية، وسائر المنابر الإعلامية على إسلام بحيري وفاطمة ناعوت، وأحمد ناجي بعد صدور أحكام قضائية بالحبس ضدهم بتهم ازدراء الإسلام والاعتداء على القيم الأخلاقية.
وتوجت هذه الكتابات بمقال الكاتب المشهور صلاح سالم بجريدة الأهرام بتاريخ 1 / 3 / 2016 بعنوان “عن فتنة الإبداع وتهمة الإلحاد” دعا فيه إلى الاعتراف بالإلحاد، كما هو الحال في الغرب العلماني فقال فيه ” نحتاج إلى اعتراف بالإلحاد، لا نطلبه لأجل الثلاثة المتهمين الآن بتهديم الأخلاق وازدراء الإسلام إذ لا نتهمهم بالإلحاد أصلا، و لكن نود أن نمد الخيط إلى آخره، والمنطق إلى غايته، فلا يدور جدلنا حول موقف تكتيكي يتعلق بواقعه خاصة، أو حادثة مفردة، بل يمتد ليؤطر كل الوقائع المقاربة والحوادث المماثلة مستقبلا”.
والمتابع للصحف الرسمية يلحظ التصريح الفج بأن الصراع في مصر إنما هو على الهوية، فهذا مقال د مصطفى الفقي حول المشروعات المطروحة للمصالحة الوطنية المنشور في جريدة الأخبار بتاريخ 15 / 2 / 2016، لا تنقصه الصراحة في توصيف الحالة المصرية، حيث جزم بأن الخلاف في الحالة المصرية –شديدة التعقيد– ليس سياسيا فقط و لكنه عقائدي أيضا، مستشهدا بكلام السيسي في لقاء صحفي أجنبي، من أن كل القوى المتصارعة سياسيا في مصر هي قوى مصرية تنتمي إلى الوطن وتنتسب إليه، ولكن المشكلة كانت و لا تزال في تحديد هوية الوطن المصري.
وهذا السيد يسين يفتتح مقاله “استرداد الهوية المصرية في ثورة 30 يونيو” المنشور بجريدة الأهرام بتاريخ 7 / 7 / 2016 بكلمة وردت في خطاب السيسي اعتبرها الكلمة المحورية ذات الدلالة في هذا الخطاب و هي قوله ” نحتفل اليوم بالذكرى الثالثة لثورة الثلاثين من يونيو المجيدة تلك الثورة التي استعاد بها الشعب المصري هويته وصوب بها مساره”.
وعقب ياسين بقوله ” إن عبارة استرداد هوية الشعب هي جوهر ثورة الثلاثين من يونيو” تلك الهوية التي سُرقت من أصحاب الاستيراتيجية التي تتمثل أساسا في رفض الحداثة الغربية بكل أركانها وتأسيس نظرية إسلامية بديلة تحل محلها وذلك في مجالات السياسة والاقتصاد والمعرفة والهوية.
ولم يقتصر نقدهم -كما يزعمون- على السلطة الدينية الكهنوتية، بل عمدوا إلى نقد النص الديني ذاته، وهو ما عبر عنه السيد يسين بقوله “إن العقل وليس النص الديني هو محك الحكم على الأشياء” وكذا نقده للتعليم الأزهري في حواره في ملحق الأهرام 8 / 7 / 2016 بقوله ” ولم يعد هناك تعليم حقيقي، و يزيد على ذلك ازدواجية التعليم المدني والتعليم الديني فأن يدخل طفل من الكتاب حتى حصوله على الليسانس في نظام التعليم الديني أمر يمثل مشكلة كبيرة، لأنه نظام يقوم في الأساس على النقل وليس العقل”.
وفي الوقت الذي لا تتوانى فيه المنابر الإعلامية في الترويج للعلمانية، انشغلت المؤسسة الدينية الرسمية بتجديد الخطاب الديني، لا لترد عن الغرب سهامه النافذة إلى دين أبناء المسلمين، بل لتشرعن الفتك بالحراك الإسلامي المعارض للنظام تحت ستار الحرب على التطرف الديني.
وأخيرا، لا شك أن وضوح الرؤية واستجلاء حقيقة الصراع يحمي من الانحراف بمسيرة الإصلاح إلى دهاليز ضيقة وصراعات جانبية، تشغل عن المعركة الحقيقية؛ معركة الهوية وعندئذ فقط يمكن إفشال علمنة مصر.
“والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.
التعليقات