معركة الخلافة

إذا كان لمتحدث أن يتناول قضية عظيمة كالخلافة الإسلامية؛ فلابد من تشريح مفهوم الخلافة نفسه في الأبعاد المتعددة، فهل يتحدث عن الخلافة الاعتقادية (البعد الإيماني)، أم التاريخية (البعد الزماني)، أم الجغرافية (البعد المكاني)، أم كل ذلك وماهي الحدود الجامعة والنقاط الفاصلة فيها؟!

وليس عجيبا أيضا أن نفس هذه الأبعاد هي مرتكزات مفهوم الأمة كمفهوم ديموغرافي حضاري؛ فهي مادة عمل الخلافة كمفهوم إيماني جيوسياسي.

علما أنني كثيرا ما وجدت هذا الخلط بين كل تلك الأبعاد متعمدا؛ لإهدار الجميع أو لإسقاط الكل بالجزء، فمعلوم أن السذج فقط أو المجرمون هم من يخلطون السم بالدواء ليتجرعونه أو يسقونه غيرهم مرة واحدة!!

فالخلافة أصل عقدي منصوص عليه بتراتيبيته وتوصيفاته الدقيقة في حديث حذيفة المتفق عليه، أنه يكون بعد خيرية العهد النبوي الشريف وتوابعه من خلفائه المهديين؛ شر وهو الفتنة الكبرى وانقسام المسلمين، ثم يكون الملك العضوض خير فيه دخن أي يخالطه شر، ثم الدعاة على أبواب جهنم أي دعاة المذاهب الأرضية الكفرية التي يتغنى بها من يلعنون الخلافة اليوم، ولا مخرج حينئذ إلا لزوم جماعة المسلمين وتنصيب إمامهم!!

وقد قسمها الدهلوي الى خلافة راشدة محضة وهي عهد أبي بكر وعمر ، ثم خلافة راشدة شابها ملك (لاتساع وتطور الدولة)، وهي عهد عثمان وعلي، ثم الملك الراغب وهو عهد معاوية، ثم الملك العاض وهو ما تلى ذلك، والتداخل المخل بين هذه المصطلحات وحقائقها؛ هو مما يوهن التقييم ويضر بالفهم السليم.

فالخلافة حسبما نؤمن بها -وكيفما حدث بالفعل- تختلف عن بعض ما روي في التاريخ بلا توثيق تطمئن له النفوس القويمة، كما وتختلف عن رؤية فرج فودة نبي العلمانية الذي استقي منه محمد ابو الغيط مقاله الذي نقله بالأمس وائل غنيم حرفيا تقريبا، وكل هذه الدعاوى السقيمة ترتكز على تلك الحوادث التاريخية التي تحاول مدافعة الوحي أحيانا، ومعلوم أن كثيرا من مرويات الدولتين؛ الأموية والعباسية قد تأثرت بالمناحرات السياسية فقال فيها الإخباريون الشيعة -الواقعون تحت الظلم والاضطهاد غالبا- ما قالوا، وربما تأثر بهم بعض رواة السنة!!

فمحاولة انتقاص الخلافة بوجود فترات معيبة في مسارها الطويل هي محاولة انتقاض الأصل العظيم عقيدة وتطبيقا بالاستثناءات التي تعد في حقيقتها خروجا على هذا الأصل وليست تنفيذا له؟!

إن استلهام قضية الخلافة لنا كمسلمين؛ هو حقيقة شرعية وفضيلة إنسانية وضرورة إسلامية، فأما الشرعية -وهذه قد لا تعني أولئكم كثيرا- فلأن الله قد ألزمنا إلزاما بأن نكون أمة واحدة تصهر الأعراق والأجناس وتقيم فيها أحكام الشريعة بناء على مبدأ سيادتها، وهو ما أظن أن المعسكر الآخر يفهمه جيدا؛ فيسعى لإسقاط هذه السيادة، كما يفهمه بعض اللاهثين خلف الاصطفاف معهم منا؛ فيتنازلون عنها!!

إذا فالصراع حقيقة هو صراع على مبدأ السيادة، لا هو أخطاء تاريخية ولا حكام اغتيلوا ولا فساد سياسي ولا ديكتاتورية ولا أي شيء آخر، وإلا فأي بديل لابد له من نظرية سيادية أو أيديولوجيا للحكم؛ وهذه ستكون علمانية كديمقراطية أوربا والغرب التي قامت على التطهير العرقي والحروب العالمية والمذابح والدماء وسرقة خيرات الشعوب، أو فاشية أو اشتراكية أو غيرها من المناهج المنحطة.

وكونها فضيلة إنسانية فلكونها أقامت أكثر من ١٥٠٠ حاضرة من حواضر الدنيا وصانت الاقليات والديانات والحقوق لغير المسلمين، فضلا عن تسويتها بين المسلمين جميعا على اختلاف أعراقهم وألوانهم وأوطانهم وألسنتهم، وهو ما لا يستطيع إخفائه أو انكاره عاقل.

وأما كونها فريضة إسلامية؛ فيكفي أنه ما قسمت ديار المسلمين ولا استبيحت بيضتهم ولا سفكت دمائهم بهذه الغزارة ولا انتهكت أعراضهم ولا سلبت ثرواتهم؛ إلا بعد إسقاط خلافة المسلمين في عام ١٩٢٤م رغم اعتلالها قبل ذلك لقرنين من الزمان تقريبا.

والخلافة التي نبغي أيضا يميزها أنها تخضع للقواعد الكلية والاصول العامة للشريعة فقد تركت فيها مساحات واسعة للاجتهاد، إذ ربما تصلح بعض الأنماط الإدارية أو الهياكل الوظيفية أو التنفيذية التي كانت في زمن مضى لما لا تصلح له اليوم، وهذا من عبقرية المنهج نفسه فلم يجعل هناك نصا جامدا أو صورة محددة لتولية الحاكم أو نظام الحكم او مدة حكم الوالي، ولا يمنع كذلك الاستفادة من النظم السياسة الحديثة بما لا يتعارض مع ثوابتنا الشرعية.

فقد خلف أبو بكر رسول الله ﷺ ببيعة خاصة من أغلبية أهل الحل والعقد ثم البيعة العامة ثم بايعة من قد كان تخلف من أهل الحل والعقد، وتولى عمر بوصية أبي بكر ثم بايعه الخاصة والعامة، وتأمر عثمان بلجنة محدودة من سادة من تبقى من الصحابة شكلها عمر بنفسه -بعضوية ولده عبد الله كاستشاري فقط- فرشحوا واحدا منهم، ثم أجري ما يشبه الانتخاب العام من المسلمين لعثمان حتى سئلت فيه العذارى في خدورهن، ثم تولى علي ببيعة عامة من المسلمين كافة، إلا أهل الشام خلافا للأصل وفيه وعيد.

إن جوهر الخلافة كما في التجربة الأولى هو حكم الشوري الرشيد، الذي يقيم الدين في عامة المسلمين وخاصتهم، ويحافظ على كيان الأمة وحدودها الجامعة ووحدتها، كما يؤدب المعتدين وينشر الدين.

والخلافة كتجربة اجتهادية -لا كأصل شرعي ومنهجي- لها سلبياتها وإيجابياتها، والتاريخ الذي سطرناه نحن بأيدينا لا الأمم المخالفة لنا يكشف ويقيم كل تلك السلبيات، وفي غيرها من النماذج تاريخيا ومعاصريا مثل تلك الثغرات وزيادة، حتى ديمقراطيتكم التي جعلتموها للناس دينا بكل معنى الكلمة، وصنعتم محاكم تفتيش لمن لا يؤمنون بها، ماذا أنتجت غير القتل والحرب والاحتلال والدمار؟!

لن أتحدث عن فارس والروم، ولا عن عصور الظلام في أوربا والتي كانت معاصرة لأزهى عصور التقدم والازدهار في كافة العلوم الإنسانية التي أسست الحضارة المادية المعاصرة واعترف بها المنصفون، ولا ممالك التتار في آسيا وغيرها من نماذج الحكم، سواء على مستوى الفكر أو الممارسة.

وأخيرا نؤكد أن إن اجترار التراث فقط دون استلهام حكمته هو في الحقيقة منهج هروبي وهو عمل الأمم المهزومة والفاشلة، أما الأمم الواعية فهي تلك التي تضع خطتها بما يناسب واقعها ومتغيراته، أي تتجاوز الجانب السردي والاسطوري وتحاول استلهام روح التجربة والانطلاق من قواعدها وأصولها لتحقيق نهضتها بأبنائها ومقوماتها بناء على خطة حضارية واضحة.

إن دعوتنا للخلافة ليست هي لما يراه غنيم وغيره من لابسي النظارات السوداء الانتقائية، فلا ترى إلا بعض البقع السوداء الصغيرة في تاريخنا كي تحاول أن توهمنا أنها هي الاصل، وإنما هي دعوة لحكم رشيد ويوتوبيا حقيقية سادت بالفعل على مر ثلاثين عاما، ثم ظلت موجودة وان يكن بنسبة اقل بحيث كانت تتوارى ثم تعود من حين إلى آخر، آخذة في الاعتبار تطور الحضارات والأمم واتجاهها نحو الانحدار أو الشيخوخة، مع عدم قابليتها للزوال كالحضارات البائدة التي ذهبت واندثرت ولن تعود ولا يوجد لها من يتصور تصورا مجرد وجودها مرة أخرى، لا أمة تتفجر وتمور كأمتنا العظيمة -رغم كل ما بها- لاستعادة أمجادها بما تحمله من مبادئ كونية غير عنصرية أو محدودة.

ونحن إذ نتحرك فلسنا مشدودون نحو المركز فقط ولا نحو مرحلة ما بيننا وبين ذاك المركز قد تحمل سلبياتها، وإنما تحدونا غيبيات صادقة يقينية بأننا سنستطيع تحقيق النموذج الأمثل الذي يماثل ذلك الأصل والمنبع.

وائل غنيم والتيار الذي ينتمي إليه يجيدون دائما الهروب إلى الأمام ونحو الخارج، فبعد كل الجرائم التي ارتكبوها أو شاركوا فيها مع سبق الإصرار والترصد، فمازالوا يمتلكون من عدم الحياء ما يجعلهم قادرين؛ ليس فقط على التنظير وتقييم المناهج العظيمة؛ وإنما انتقاد خصومهم الذين مازالوا في الميدان الذي فروا هم منه وخانوه يوما، وتحميلهم كل الأخطاء دفعة واحدة.

والأعجب من ذلك أنهم لا يكتفون بنقد السلوك وإنما يحاولون نقض الاعتقاد أيضا، كما لا يتوقفون عند النموذج الحاضر أمامهم وإنما يعمدون بتشويه الماضي التليد، ويبدو أن الأبعدين يفعلون ذلك لمصادرة المستقبل أيضا، ربما لظهور بادرة ما قد لاحت لهم!!

فجاؤا يتحدثون عن ديكتاتورية الخلافة بوقاحة يحسدون عليها، بعدما دعموا أعتى وأخس الديكتاتوريات التي أراقت الدماء أنهارا في شوارع مصر للاستيلاء على السلطة؟!

وربما نجح كاتب المقالة في العودة للظهور على أكتاف من انتصبوا لدحره، بعدما غاب كثيرا في سرداب العدالة الليبرالية المريح، لكنه قد شخص وأظهر طبيعة الصراع وحقيقة المشكلة، وأنها ليست في بقاء رئيس أو عزله، نعم لقد استفززتنا مشكورا من مكامننا ونحن عاتون في قوتنا لو كنتم يعلمون، ونشرت استفتاء عاما على الخلافة فارجع البصر ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير.


التعليقات