الحفاظ على الثوابت أم الحفاظ على المكتسبات ؟!!!

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

في أزمنة الإغتراب ، وأجواء الإحتراب ، يحاول الباطل أن يضغط بثقل واقعه المشين على نفوس المؤمنين ليَحُول بينهم وبين مواصلة السير على طريق الإيمان , فيضع أهل الإيمان أمام مفترق طرق :

إما الحفاظ على الثوابت الشرعية ، وإما الحفاظ على المكتسبات الدنيوية أو الدعوية.

وتضيق هذه المكتسبات التي يقايض عليها الباطل وتتسع، حسب قوة الباطل المادية ،وكثرته العددية ،فتارة تكون المقايضة على:

1- الحياة نفسها:

فتكون المقايضة على التخلي عن الثوابت الشرعية كالدعوة إلى التوحيد وتعرية الباطل ومفاصلة المبطلين…. وإما القتل وإزهاق النفوس المؤمنة :

– يقول تعالى حاكيا عن أصحاب الكهف ” إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً “( الكهف-20).
– وها هو أبو إبراهيم يقول لإبنه ” قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ( مريم-46) أي لئن لم تنته عن دعوتي للتوحيد وترك الشرك لأقتلنك رجما بالحجارة.

– وها هم أهل الكفر يقولون لرسلهم ” إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( يس-18) .

– وورد في قصة غلام الأخدود في صحيح مسلم ” فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فدعا بالمنشار، فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه -من حاشيته وجنده- فقال: اذهبوا به إلى جبل كذ وكذا -سمى لهم جبلاً- فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه- من فوق الجبل…..” وجاء في نهاية القصة ” فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود بأفواه السكك، فخدت- حفرت في الطرق- وأضرم فيها النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌ لها، فتقاعست أن تقع فيها رحمة بالولد، فقال لها الغلام: يا أمه! اصبري فإنك على الحق ” .

2- البقاء في الديار:

فتكون المقايضة على التخلي عن الثوابت الشرعية وإما الطرد من الديار والتشريد في الأرض:

– يقول تعالى ” وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ” (ابراهيم -13 ).

– وها هو نبي الله شعيب يقول لقومه ” وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( الأعراف-87) فكان جوابهم ” قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (الأعراف -88) .

3- البقاء حراً :

فتكون المقايضة على التخلي عن الثوابت الشرعية وإما دخول السجن وفقد الحرية :

– فها هو فرعون يقول لموسى عليه السلام ” لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ” ( الشعراء- 29).
– وها هى إمرأة العزيز تضع يوسف عليه السلام أمام خيارين إما الوقوع في الفاحشة وإما دخول السجن ” وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (يوسف-32).

-مما سبق يتضح لنا أن هذا الأسلوب الشيطاني الخبيث الذي يتعامل به أهل الباطل مع أهل الإيمان أسلوب مطرد كلما كان للباطل صولة ولأهله دولة.

– وفي بعض الأحوال نتيجة بعض الملابسات قد لايستطيع الباطل أن يقايض على الحياة أو الحرية أو الإقامة في الديار فيلجأ إلى المقايضة على المكتسبات الدعوية ويضع أمام الدعاة أحد خيارين إما التخلي عن الثوابت الشرعية وإما غلق المؤسسات الدعوية ووقف بث الفضائيات الإسلامية وإيقاف الأنشطة الدعوية في المساجد و مصادرة الأموال و …….

– فأي الخيارين يختار المؤمن ؟

الإجابة: يختار المؤمن الحفاظ على الثوابت الشرعية , فالمؤمن مكلف من الله بالدعوة إلى الحق والثبات على هذا الحق حتى الممات دون أن يحرف هذا الحق أو يبدل فيه, يقول تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (آل عمران-102) و يقول تعالى ” يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (المائدة-67) .

ومما يعين على إختيار الحفاظ على الثوابت الشرعية:

1- اليقين بالآخرة:

فإن فرعون لما أراد أن يحول بين السحرة وبين اختيارهم لطريق الأيمان وهددهم بالقتل والصلب وقف يقينهم بالآخرة عائقاً أمام خطته ” قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى (76) “ (طه).

– وتأمل قول الطفل لأمه في قصة غلام الأخدود” يا أمه! اصبري فإنك على الحق “.

2- استحضار فردية التبعة:

– فكل إنسان سيقف وحده أمام الله عز وجل ليجازيه على عمله ” إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) ” (مريم).

– فإن كان المرء من الثابتين على الحق في زمن الغربة والاستضعاف دخل في الزمرة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم ” إن من ورائكم أيام الصبر للعامل فيها أجر خمسين منكم . فقالوا : بل منهم . فقال : بل منكم ; لأنكم تجدون على الخير أعوانا ، وهم لا يجدون عليه أعوانا ”

– وإن كان من المبدلين للدين الراكنين للظالمين دخل في الزمرة التي قال الله عز وجل فيها” وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) ” (هود).

3- الاقتداء بالأنبياء:

– فيوسف عليه السلام فضل السجن على الوقوع في الفاحشة ” قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) ” (يوسف).

-وإبراهيم عليه السلام فضل الهجرة وترك الديار على ترك الدعوة للتوحيد ” وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 26( ” (العنكبوت) .

-والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستجب لمساومات المشركين ” روى ابن إسحاق بسنده، قال: اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو يطوف بالكعبة ـ الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمى ـ وكانوا ذوى أسنان في قومهم ـ فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} السورة كلها. وأخرج عَبْدُ بن حُمَيْد وغيره عن ابن عباس أن قريشًا قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك. فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} السورة كلها وأخرج ابن جرير وغيره عنه أن قريشًا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فأنزل الله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] ولما حسم الله تعالى هذه المفاوضة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة لم تيأس قريش كل اليأس، بل أبدوا مزيدًا من التنازل بشرط أن يجرى النبي صلى الله عليه وسلم بعض التعديل فيما جاء به من التعليمات، فقالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}، فقطع الله هذا السبيل أيضًا بإنزال ما يرد به النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقال: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15] )

4- الحرص على عمق الصلة بالوحي والوقوف عند حدوده :

فأنى لمؤمن يقرأ قوله تعالى ” وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً ” ( النحل- 92) ثم بعد ذلك ينقض غزله من بعد قوة أنكاثاً ,وأنى له أن يقرأ قوله تعالى” ) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) ” ( الأنعام) ثم هو بعد ذلك يعرض عن الوحي ويتبع سبيل المشركين.

مآل أصحاب الخيار الآخر وكيفية التعرف عليهم :

أما من يختار الحفاظ على مكتسباته الدنيوية أو الدعوية على حساب الثوابت الشرعية فبمرور الوقت يتحول إلى بوق للباطل وذنباً للمبطلين ومطية من مطايا المجرمين بعد أن كان داعياً للحق ورمزاً من رموزه ” وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ” ( الأعراف).

ونستطيع أن نتعرف على أصحاب هذا الخيار من خلال سِمَتين اثنتين مستمدتين من قوله تعالى ” وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) (الإسراء) :

السمة الأولى:

تبديل المنهج وطرح مفاهيم وأراء غريبة شاذة لا تمت للشرع بصلة وهذا يندرج تحت قوله تعالى” وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ” .

السمة الثانية:

إحتفاء أهل الباطل بهم وترويجهم لأرائهم وتلميعهم لهم وإضفاء صفات العلم والحكمة والوسطية عليهم وهذا يندرج تحت قوله تعالى” وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً

موقف بعض الطيبين من هذه القضية الخطيرة:

-وبعض الطيبين يظن ألا إثم عليه إن تنازل عن جزء صغير من الدين مقابل مصالح أكبر متوهمة ولأمثال هؤلاء يقول صاحب الظلال رحمه الله معلقاً على قوله تعالى (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75) (الإسراء).

(هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله , هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما . محاولة إغرائهم لينحرفوا – ولو قليلا – عن استقامة الدعوة وصلابتها . ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة . ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا , فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية , إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق . وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة , فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها !

ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق . وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير , وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل , لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة . لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء !

والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها . فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر , والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل , لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان . فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر . وليس فيها فاضل ومفضول . وليس فيها ضروري ونافلة . وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه , وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه . كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره !

وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات ، فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم , وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة , وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها !  .

وفي الختام أدعو الله عز وجل أن يثبت قلوبنا على الحق وأن يحيينا إن أحيانا على الإسلام وأن يميتنا إن أماتنا على الإيمان.


التعليقات