س: هل يجوز مناصرة المعتقلين المضربين عن الطعام؟ وألا يعد ذلك انتحارا؟
ج: ينبغي الفصل بين مسألتين: الأولى حكم مناصرة المعتقلين المضربين فهو متعلق بمن خارج السجون، والثانية حكم إضراب السجناء عن الطعام.
أما المسألة الأولى:
فنصرة المعتقلين المظلومين المضربين عن الطعام واجبة وفرض كفائي، وعلينا التضامن مع المعتقلين بالدعاء لهم، ونشر قضيتهم، والدفاع عنهم، ومساعدتهم، ومساعدة عوائلهم بالمال وما يحتاجون إليه، فنصرتهم واجبة في الأصل بغض النظر عن حكم الإضراب عن الطعام، لاسيما والمسألة اجتهادية اختلفت فيها أنظار العلماء.
وأما المسألة الثانية:
فالحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ لذا لزم التعرف على المقصود من الإضراب عن الطعام، وأنواعه، وما يترتب عليه من آثار إيجابية وسلبية،والاطلاع على أقوال العلماء في المسألة، للوصول إلى القول الراجح، ويمكن عرض ذلك في النقاط الموجزة التالية:
أولا: المقصود بالإضراب عن الطعام:
الإضراب عن الطعام محل البحث هو: الامتناع عن بعض أو كل أنواع الطعام أو الشراب أو هما معاً، مدة محددة أو مفتوحة بغرض الضغط على ظالم معتدي لانتزاع حق مشروع.
ويستخدم الإضراب عن الطعام لدى بعض الأشخاص لرفع الظلم الواقع عليهم في حال لم يستطيعوا رفعه بالطرق الأخرى، فيضطر المظلوم للمطالبة بحقه بهذه الطريقة، ومن أمثلة ذلك ما يفعله الأسرى الفلسطينيون الذين يمارس معهم التعذيب الوحشي والممارسة الشرسة في التعامل والمنع من الحقوق في سجون الاحتلال، وما يفعله إخواننا في السجون المصرية لرفع الظلم الواقع عليهم ولإيقاف مسلسل انتهاك الحرمات والأعراض داخل السجون.
ثانيًا: أنواعه:
1- الامتناع عن الطعام فقط:
الامتناع عن الطعام فقط دون الملح والماء والسوائل والفيتامينات، وهو أطول أنواع الإضراب وأكثرها شهرة، وأكثرها تأثيراً لوجود وقت كافٍ لا يصال صوت المضربين للعالم، للضغط على الطرف الثاني المعتدي، وفائدة الملح أنه يحافظ على المعدة من التعفن، وفائدة السوائل والماء والفيتامينات التعويض عن الطعام والحفاظ على الجسم من الجفاف.
2- الامتناع عن الطعام والملح والماء والسوائل والفيتامينات:
وهو أخطر أنواع الإضراب وأسرعها موتاً حيث يموت في حدود ثلاثة أيام تزيد وتنقص قليلاً، كما أنها تمثلاً خطراً في عدم وجود وقت كافٍ لتحقيق التضامن مع المضرب، وإيصاله صوته للعالم. والإنسان بطبيعته يتحمل العيش لمدة ثلاثة أيام دون طعام أو شراب، كما يستطيع العيش لمدة أربعين يوما فأكثر إذا شرب الماء لوحده.
ثالثًا: الآثار الإيجابية:
يرى المتبنون للإضراب كوسيلة للتغيير السلمي أن له فوائد كثيرة، منها:
تحقيق المطالب المشروعة، ورفع الضرر، وتحقيق مقاصد الإضراب، وقد ثبت ذلك من خلال تحقيق عدد من الإضرابات مقاصدها، وموافقة الحكومات على مطالب المظلومين، وقد نجح ذلك في كثير من الحالات حتى مع أعتى الحكومات، وأشدها ظلماً وعناداً وطغياناً، ومن أمثلة ذلك نجاح عدد من الإضرابات في السجون الإسرائيلية في تحقيق مطالب الأسرى الفلسطينيين أو معظمها، كما حصل في إضراب الأسرى في سجون الاحتلال بتاريخ 5/9/2004م.
ويرى هؤلاء أن له بعداً سياسياً يتمثل في إحراج الدولة داخلياً وخارجياً، فالداخل: بسلب طاعة الشعب التي هي سر قوتها ووجودها، ومن الخارج: إحراجها دولياً بأنها دولة استبدادية ودكتاتورية.
رابعًا: آثاره السلبية وأخطاره:
لا يصح التفريق بين ما يحدث في سجون العدو الصهيوني وما يحدث في سجون المستبدين في بلادنا بحجة أنهم مسلمون؛ فالقول بجواز الإضراب في سجون الصهاينة ينسحب على سجون الأنظمة المستبدة في البلاد العربية من باب أولى
ويرى المعارضون للإضراب أن فيه الآثار السلبية الآتية:
1. التعرض لخطر الموت، والإقدام على قتل النفس المحرم.
2. الأضرار الجسدية فيما لو بقي على قيد الحياة.
3. عدم الاستجابة للمطالب أصلاً في بعض الحالات، أو عدم الاستجابة لكل المطالب في الغالب.
خامسًا: أقوال العلماء:
الإضراب عن الطعام ورد في التاريخ، في حادثة سعد بن أبي وقاص مع أمه ما يؤكد ذلك، حيث أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره عن سعد بن مالك قال: أنزلت فيَّ هذه الآية: “وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما”.. الآية. قال: كنت رجلا برا بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيَّر بي، فيقال: يا قاتل أمه! فقلت: لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكثت يوما وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما وليلة أخرى لم تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما وليلة أخرى لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني لشيء، فإن شئت فكلي، وإن شئت لا تأكلي، فأكلت.
لكن هذه المسألة لم تبرز في عصر فقهائنا الأئمة الأوائل كما برزت في عصرنا الحديث، وحديث فقهائنا المعاصرين المتكرر عنها ناتج عن كثرة الاضطهادات والعسف في معاملة السجناء في عصرنا الحديث في المنطقة العربية، بل والعالمية.
ولقد اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم الإضراب عن الطعام على ثلاثة أقوال:
القول الأول: التحريم مطلقا، وبه أفتت وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف في دولة الإمارات العربية المتحدة، كما جاء في مجلة منار الإسلام الصادرة عن وزارة العدل الإمارات،:عدد356 ـ شعبان- 1425هـ.
والقول الثاني: الجواز مطلقا، وبه قال الشيخ تيسير التميمي، قاضي قضاة فلسطين، وقد أقرته عدد من لجان الفتوى في فلسطين.
والقول الثالث: الجواز المقيد بأن لا يؤدي الإضراب إلى الموت أو تلف الأعضاء، وهو قول جمهور العلماء المعاصرين، وبه أفتى الشيخ ابن عثيمين، والدكتور ناصر العمر، والدكتور محمد بن إبراهيم الغامدي، وهو قول الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور عبدالله الفقيه.
وسبب الخلاف هو اختلافهم في التكييف الفقهي للإضراب: هل نوع من أنواع الانتحار، أو هو نوع من أنواع الجهاد المشروع، والانتصار المشروع من الظلم؟
فالفريق الأول عده من الانتحار وإلقاء النفس إلى التهلكة، والثاني عده جهادا مشروعا، وانتصارا من الظالم بما هو مستطاع، أما الفريق الثالث فقد سلك مسلك الجمع بين الأدلة، وناقش كل فريق بأدلة الآخر؛ فحملوا أدلة الجواز على حال ما لم يصل إلى الموت والتلف، وحملوا أدلة التحريم على ما إذا وصل إلى التلف الهلاك.
سادسا: المناقشة والترجيح:
1-المسألة محل خلاف بين العلماء المعاصرين، ولا إنكار في المسائل محل الاجتهاد كما هو معلوم، وإنما هو بيان كل فريق لأدلته، والاختلاف مؤثر في الحكم على فاعل الإضراب بلا شك، فلا يجوز لمن تبنى القول بالتحريم الجزم بالتأثيم على الإطلاق، فضلا عن نسبة ذلك لأعيان مخصوصين؛ إذ لا جزم في مظان الاجتهاد.
2- الانتحار الوارد في الأحاديث مقيد بسياقاته التي نص فيها على الجزع وقلة الصبر، وهو غير متحقق في المضرب عن الطعام، فعن جندب أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ” كان فِيمَنْ قبلكم رجلٌ به جُرْحٌ، فَجَزَعَ، فأخذ سِكِّينًا فَحَزَّ بها يده، فما رَقَأَ الدَّمُ حتى مات، قال الله تعالى: ” بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ”. متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أي بعض الغزوات) فقال لرجل ممن يَدَّعِي الإسلام: هذا من أهل النار، فلمَّا حضر القتال قاتل هذا الرجل قتالاً شديدًا (أي مع المسلمين) فأصابته جراح، فقيل: يا رسول الله، الذي قلت آنفًا إنه من أهل النار، قد قاتل قتالاً شديدًا وقد مات. فقال عليه السلام: إلى النار. فكاد بعض المسلمين يرتاب، وقالوا: كيف يكون هذا في النار؟ . فبينما هم على ذلك إذ قيل لهم: إنه لم يَمُتْ، ولكن أصابته جراح شديدة، فلما كان من الليل لم يَصبر على الجراح، فأخذ ذُبَابَ سيفه (طرف سيفه) فتحامل عليه (اتَّكَأَ عليه) فقتل نفسه. فأُخبر بذلك رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: “الله أكبرُ، أشهد أني عبد الله ورسوله، ثم أمر بلالاً فنادى في الناس: إنه لا يدخل الجنةَ إلا نفسٌ مسلمة، وإن الله لَيُؤَيِّدُ هذا الدين بالرجل الفاجر”. متفق عليه.
3- المضرب عن الطعام صاحب قضية، مجاهد بنفسه، يبتغي رفع الظلم ومنعه، ومن ثم كانت تسويته بالمنتحر من الظلم لأنها تسوية بين مختلفين، وليس كل من تسبب في قتل نفسه كان منتحرا وقياس المضرب عن الطعام على المنغمس في العدو بجامع التحقق من الهلكة أقرب والله أعلم.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (25/272): وأما قوله: أريد أن أقتل نفسي في الله. فهذا كلام مجمل فإنه إذا فعل ما أمره الله به فأفضى ذلك إلى قتل نفسه فهذا محسن في ذلك كالذي يحمل على الصف وحده حملاً فيه منفعة للمسلمين وقد اعتقد أنه يقتل فهذا حسن. وفي مثله أنزل الله قوله: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد) [البقرة 207]، ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى الخلال بإسناده عن عمر بن الخطاب: ” أن رجلا حمل على العدو وحده فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال عمر: لا ولكنه ممن قال الله فيه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد) [البقرة 207] . أ. هـ.
4-القول بجواز الإضراب عن الطعام الذي لا يفضي إلى الموت مع غلبة الظن بتحقق المصلحة أحوط من جهة الجمع بين الأدلة، أما الإضراب حتى الموت فلا يجوز إلا إن كان هناك ضرر أكبر، كما لو كان هناك ممارسة للموت البطيء مع بقية السجناء المسلمين، ولم يمكن الدفع عنهم إلا بهذا فلو قيل بالجواز في هذه الحال لكان له وجه؛ لأن الضرر الأكبر يدرأ بالضرر الأصغر، فموت واحد أهون من موت المجموع، كما في قصة يونس عليه السلام.
5-لا يصح التفريق بين ما يحدث في سجون العدو الصهيوني وما يحدث في سجون المستبدين في بلادنا بحجة أنهم مسلمون؛ فالقول بجواز الإضراب في سجون الصهاينة ينسحب على سجون الأنظمة المستبدة في البلاد العربية من باب أولى، قال السرخسي في المبسوط (24/154): ولو أراد أن يمنع قوما من فسقة المسلمين عن منكر اجتمعوا عليه وهو يعلم أنهم لا يمتنعون بسببه وأنهم يقتلونه فإنه يسعه الإقدام على ذلك لأن هؤلاء يعتقدون الإسلام فزجره إياهم يؤثر فيهم اعتقادا لا محالة. أ. هـ.
هذا والله أعلى وأعلم.
التعليقات