مصر وما يجري في مصر ..

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

إن ما يجري في مصر هو حالة فريدة وصادمة للثورة المضادة، وهو مصطلح بالمناسبة ليس جديداً ولا مخترعاً أو مبتدعاً. ففي عُرف الثورات كان لابد دائماً من ثورة مضادة، إذ أنه من خصائص الأنظمة عامة أنها ليست رؤساً فحسب ولا نظاماً أو أسرة حاكمة وإنما هي أفكار ومضامين أو أيديولوجيات ورموز تمثل مبرراً لوجود النظام وفلسفته ، كما أنها مؤسسات – حتى في الدول الشمولية غير المؤسسية – ولكنها في هذه الحالة تتخذ شكل العصابات واللوبيات. ولذا كان من الطبيعي خاصة في الثورات البيضاء كثورة ٢٥ يناير أن ترتد كل تلكم القطاعات لتعاود الكره مرة أخرى في محاولة طبيعية للتغلب والعودة للسلطة، خاصة إذا هدأت الجماهير وانطفأت فورة ما بعد الثورة، وقد حدث هذا في الثورة الرومانية حين قفز إيون إيليسكو من مركب تشاوشيسكو الغارقة قبل ساعات من الإطاحة به ليدعي الثورية ويقفز على الثورة ويشكل ما أسماه “بجبهة الإنقاذ الوطني” ويقضي على بقايا الثوار في مذبحة بوخارست الشهيرة التي حرك فيها تجمعات العمال المحاوطة والمتاخمة للعاصمة لتقتلهم بدعوى أنهم أعداء الثورة وعملاء الخارج. وكذلك ما حصل من انقلاب اليساريين بعضهم على بعض في الثورة البرتغالية أو ثورة القرنفل عام ١٩٧٤م بعد حكم أنطونيو دي اسبينولا وصراع الأجنحة الذي قاده “أوتيلو دي كارفالو” إلى غير ذلك من الأمثلة.

الثورة المصرية التي انطلقت كفعاليات مجتمعية شبابية غاضبة وخاطفة أظهرت عجز النظام الطاغي وخوائه وعدم تماسكه

وفي حالة الثورة المصرية التي انطلقت كفعاليات مجتمعية شبابية غاضبة وخاطفة أظهرت عجز النظام الطاغي وخوائه وعدم تماسكه؛ حيث لم يكن للثورة قيادة حقيقية في ظل حالة الشيخوخة والتخشب التي تعتري الأحزاب الكارتونية والرموز والقيادات السياسية، وحين اندفع الشعب بكل أطيافه لدعم الاحتجاجات التي تحولت على الفور إلى ثورة عارمة لم يكن من بين القوى المجتمعية من هو أكثر نظامية واستعداداً وكثافة عددية وقواعد شعبية من القوى الإسلامية التي اندفعت كالمارد الذي طالما حبس في زنازين السلطة البائدة ، اندفعت لتحقق ذاتها وتنافس كغيرها على السلطة في كل مستوياتها بينما لم تقنع بقية القوى العالمانية على اختلافها بهذه الأحقية رغم بقاء معضلة انحسارها من الشارع وعدم وجود قواعد منافسة للإسلاميين فيه وهو ما تبدى في كل الاستفتاءات والانتخابات التالية للثورة. نعم كان اليسار ماكراً ونشطاً وهادئاً جداً بل لا أبالغ إذا زعمت أنه كان الجهة السياسية الوحيدة في مصر التي قامت بجهد تبشيري هائل كفل لها الوجود مرة أخرى في الشارع المصري بعد غياب شبه كامل منذ سبعينيات القرن الماضي ومازال اليسار يعمل وينطلق بكل فعاليته ليحقق إرادته ويثبت ذاته بل لا أبالغ إذا زعمت أنه هو المخرج الحقيقي لكل فصول المسرحية، وساهم في هذا خفوت الطرح الإسلامي الثوري والذي يمثل الطرح الوحيد القادر على مواجهة اليسار بكل مدارسه وأفكاره ورموزه. وبغض النظر عن أسباب هذا الخفوت الذي كان ترجمة في الحقيقة لانكسار المد الإسلامي الثائر فيما يعرف بالمد الجهادي ومحاولة القوى السلفية الثورية التي تمثل الخيار الثالث أو الكتلة السائلة ما بين الإخوان والسلفية التقليدية؛ محاولتها النهوض واستجماع قواها التي أنهكتها عشرات السنين من البطش والقهر والحصار، هذا الخيار المتمثل في تيار حازم أبو إسماعيل والجبهة السلفية وغيرها من شباب الثورة الإسلامي الحر والذي أزعم أنه سيشكل مفاجأة الواقع السياسي المصري كله في القريب العاجل. أحزاب العالمانية – وهذه هي صياغتها اللفظية الصحيحة – قنعت إذن ويكل تياراتها وأيديولوجيتها أنها بلا قواعد ولا وجود شعبي حقيقي في مقابل الماموث الإسلامي الهائل فلجأت إلى التفاف خطير للغاية؛ وأقول خطيراً لأنه يشكل تهديداً لواقعنا المصري كله بل لا أبالغ إذا قلت أنه يتربص بمستقبلنا أيضاً كأمة وكشعب ووطن؛ إذ اقتنعت العالمانية فجأة أنها لن تمتلك القواعد والإمكانات والإعلام دفعة واحدة إلا إذا تحالفت مع القوى القديمة الرابضة هناك في كل مفاصل الدولة.

العالمانية في بلادنا لقيطة نشأت في غير بيئتها إذ هي ابنة أوربا ونتاج تحررها هناك من سلطة رجال الكنيسة والحكم الثيوقراطي

فالعالمانية في بلادنا لقيطة نشأت في غير بيئتها إذ هي ابنة أوربا ونتاج تحررها هناك من سلطة رجال الكنيسة والحكم الثيوقراطي بينما لم توجد هذه الصورة ولن توجد في بلادنا قط إلا شذوذاً واستثناءً منبوذاً، ولذا لم تجد لها محضناً هنا يوماً إلا في ظل الاحتلال والدكتاتوريات المتخمخضة عنه، فعادت للتحالف معها بعد أن خُدعت بمفارقتها يوماً فيبدو أنها قد قنعت أخيراً أنها ستأخذ من حصة الوطن في تحالفها مع بقايا النظام القديم ما لن تحلم به في ظل حكم يرجع في خلفته الأساسية والاعتقادية إلى الإسلام عقيدة وشريعة.


التعليقات