ترتكز العالمانية في جوهرها المكين على قاعدة النسبية رغم أن البعض يعتبرها انبثاقًا عن المدرسة التفكيكة وهي إحدى مدراسها الأربعة وبقيتها:
المثالية والوضعية والبنيوية، فكارل ماركس مثلاً يضرب في عماية التفسير المادي للتاريخ، بينما يؤسس نيتشة لمذهب القوة، ويقاربه دوركاييم الذي يقول “بنسبية” الأخلاق حيثُ يفرض الأقوى أخلاقياته ومبادئه على الضعيف وهذا هو معيار الصواب فيها، وتقوم الداروينية ـ نسبة إلى داروين ـ على فكرة حيوانية الإنسان، بينما يعمد فرويد إلى التفسير الجنسي للظواهر الاجتماعية البشرية.
والحقيقة أن المتأمل لهذه الأطروحات يجد أن منظريها في بدائتها الأولى على اختلافهم إنما يؤسسون للثنائية الضدية:
النسبية في مقابل المطلق، أو بمنطوق آخر: العالمانية أو الزمنية في مقابل الدينية؛ إذ يعني ذلك أنهم يعتبرون الدين إطارًا جامدًا يحد من حركة الحياة والمجتمع والتطور الحضاري، بهذا التجريد: المادية و نسبية أخلاق القوة والحيوانية والجنسية، وذلك في مقابل: المرجعية الإلهية العليا وما يمثلها من: النبوة والحق والغيب والتشريع!!
والعجيب حقًا أن هذه الأطروحات في حقيقتها هي مضاهاة ـانبهارًا أو انكسارًاـ للخط الكنسي في عصور ما قبل النهضة أو عصور الظلام في أوربا ـ حيثُ مهد العالمانية ـ كنوع من أنواع رد الفعل الرافض لهلوسات تلك الفترة وتحالف الملوك والنبلاء حينئذ مع رجال الدين، حيثُ تؤسس تلكم التصورات لمبدأ اللاقيمة ، إذ لا يحتاج الخلاص إلى مناولة ولا اعتراف في تجربة أشبه بظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي حال انحرافه، ولذلك تغص النصوص الكنسية بنفي العصمة عن الأنبياء، وقد ناقش هذه القضايا بالتفصيل، الدكتور علي عزت بيجوفيتش والدكتور المسيري رحمهما الله، كما أبدع في تصورها وصياغتها الدكتور يوسف زيدان في عزازيل.
كما تأثر بعض الفلاسفة المحسوبين على الأمة الإسلامية جملة بنفس الخط المشوب بوثنيات الإغريق والرومان
كما تأثر بعض الفلاسفة المحسوبين على الأمة الإسلامية جملة بنفس الخط المشوب بوثنيات الإغريق والرومان، حتى أسقطوا عصمة وقوة ودلائل الخطاب الشرعي بالتأويل، فأعملوا الإطلاق حتى في دلالات اللألفاظ واللغة، بل وزعموا نسبية النص المفرد وعزلته عن الدلالة المحددة بحسب قارئه، وزعموا أن الفضائل القرآنية إنما هي مقابلات للفواحش المجتمعية وليس لكونها فضلى بذاتها، بل إن عقوبتها زواجر لا تتحقق لما في نصوصه من الغفران والمسامحة عليها في الدنيا والآخرة، بل وأهدروا كذلك مرونة الإطار الديني للأخلاق حتى أن معاني مثل الشجاعة هي مقابلة للخوف فحسب؛ لا أنها حسنة في ذاتها إلى آخر هذه الخيالات.
ولإثبات حالة السيولة الكاملة فإن هيجل يقترح نظرية غريبة لإثبات أن التطور يشمل كل شيء بالمعنى المادي الذي فصلناه سابقًا؛ فينص على:
“أن كل حضارة تحمل عوامل هدمها لتولد حضارة أخرى وهكذا بالدور ”
وهذا المنهج الهيجلي إن جاز التعبير يعبر عن نفس المنظومة الأخلاقية والدينية للحضارة الغربية، والتي يراد بها أمران:
الأول: هو التشغيب على فساده بالتقدم المادي والذي تسنمت أمتنا ذروته حينًا من الدهر كباقي الأمم طبقًا لنظرية ابن خلدون التي تقضي بنشوء الأمم وشبابها وشيخوختها وانحدارها؛ بنفس الأسباب الثابتة في منظومتنا الحضارية والتي تتوافق مع الوحي المعصوم والذي يشكل إطارًا لكنه ليس مطلقًا بمعنى الجمود وإنما هو إطار مرن كالثوب النمق القشيب لكنه الفضفاض أيضًا حول البدن القوي لأمة الإسلام، مما يعني بالدليل التاريخي والمادي إمكان التوازي بين مرجعية الوحي والإيمان بالغيب والنبوات وبين التقدم الحضاري والتطور المادي فضلاً عن الأخلاقي والقيمي.
والثاني الذي يراد هو: تمريره إلى بلادنا بدعوى الحضارة والتقدمية ورفض الرجعية بكل ما يحمله من فساد عقدي وعقلي وأخلاقي.
أن هذا المنهج لا يتبدل ولا يصيبه عوار النسبية بل هو أكثر تماشيًا مع حقائق التاريخ والاجتماع والسياسة
بل إن المتأمل لمنهج الحضارة الإسلامية الذي لا يتزعزع إلا في نفوس أبنائه في فترات التخلف والتراخي عن منهج الوحي؛ يجد أن هذا المنهج لا يتبدل ولا يصيبه عوار النسبية بل هو أكثر تماشيًا مع حقائق التاريخ والاجتماع والسياسة؛ بحيث يصيغ ما تمكن تسميته بثبات القيم وهو الأمر الذي فقهه مفكرونا العظام، فعندما تقرأ لعالم مثل الدهلوي في كتابه: كشف الخفاء عن خلافة الخلفاء ما ينقح الدول والأشخاص والحوادث بفرزها على مبدئية القيم الراسخة، إذ يعد فترة كخلافة أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؛ أرشد من غيرها؛ بينما يعتبر أن خلافة عثمان وعليّ رضي الله عنهما؛ شابها ملك (ربما لتطور الدولة ونظمها) مع أنهم جميعًا راشدون، ثم يصنف ملك معاوية رضي الله عنه في طائفة الملوك الراغبين؛ بينما يندرج غيرهم من الملوك الأمويين والعباسيين في الملوك المتغلبين، وبغض النظر عن مناقشة مثل هذا الطرح إلا أن ما يعنيني هنا هو التأكيد عل الثبات القيمي المتحرك داخل إطاره المرن لا الجامد؛ وهذا على صعيد التطور التاريخي والأممي.
وعلى نفس المنهاج تتعامل آلات علم الحديث المتطورة جدًا آنذاك مع ما ينسب لرسول الله عليه الصلاة والسلام نقدًا وتفنيدًا حتى تحافظ على ثبات القيم من أية شائبة وتكشف عن تأثير حركة السياسة في محاولات الإدراج أو الوضع، كزيادة حديث” وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع، أو زيادة” ” فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد” الباطلتين مع كون الأصل صحيحًا لورود أصل كلا الحديثين في الصحاح؛ وما تؤديان إليه من حرف للأمة عن مبادئها الثابتة وتطويعها للنسبية السائلة الخاضعة لمنطق الحكام والسلاطين لا الشرع الحنيف.
المنهج الإسلامي راسخ من جهة ومتحرك ومرن من جهة أخرى وهذا هو معنى الوسطية وهو ما يحيل النسبية كذلك
أما على مستوى التطور الأخلاقي فينضبط التحريم والتحليل بالقاعدة الاستقرائية والاستنباطية من مجموع النصوص وبالجمع بين أطراف الأدلة فيما هو خاضع للتطور والتغير، فهذه ثلاثة لا تستوفي المقصود: النقد السياسي والتاريخي بالعرض على مفرزة القيم، والتنقيح المصدري لضبطها، والتطبيق التنفيذي غير المنخرم، وبهذا فالمنهج الإسلامي راسخ من جهة ومتحرك ومرن من جهة أخرى وهذا هو معنى الوسطية وهو ما يحيل النسبية كذلك.
التعليقات