الإدارة بالفوضى

في كتابه: “رهينة بقبضة الخوميني” لكاتبه روبرت دريفوس، أورد معلومات طريفة ومهمة عن زبيغنيو بريجينيسكي كبير مستشاري الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وهو لمن لا يعرفه؛ العقل المدبر لمجموعة الأزمات الدولية و أحد أعضاء مجلس إدارتها، وقد تربى على يد اليسوعيين في جامعة ماكغيل، حتى صار عضواً فخريا في جمعية اليسوعيين حيث كان يعلن عن نفسه بأنه قريب جداً لطريقتهم في التفكير، كما كان يؤمن بإمكانية إحداث انتفاضة تقودها شبكات يسوعية.

وقد طالب بريجينيسكي آنذاك بإجراء “دراسة عالمية” على ما أسماه “بالأصولية الإسلامية” نظرا لما لها من أثر سياسي متعاظم في أنحاء كثيرة من العالم، ولذلك وحسب “الواشنطن بوست ” فقد وجه أجهزة المخابرات والمؤسسات البحثية التابعة لها رسمياً لعمل دراسة متعمقة على هذه الظاهرة، حتى صارت حاكمة لسياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط برمته.

وقد صرح في أوج الثورة الإيرانية تصريحاً شهيراً وصف فيه المنطقة بأنها “قوس للأزمات” والذي يمتد من الجناح الجنوبي للاتحاد السوفييتي السابق في إيران وأفغانستان وجزء من شبه القارة الهندية في باكستان إلى تركيا، وجنوبا من خلال شبه الجزيرة العربية إلى شمال وشرق أفريقيا في منطقة القرن الأفريقي بالشرق الأوسط، والعجيب أنه اعتبر أن الإخوان المسلمين هم العامل المشترك القادر على ربط الأنظمة المتباينة في إطار واحد لمد “قوس الأزمة”.

 “إدارة الأزمة” في التعامل مع منطقتنا؛ بمعنى استغلال أزمات هذه البلدان السياسية أو الاقتصادية لتحقيق الأهداف الأمريكية في المنطقة

وكانت السياسة الأمريكية تعتمد مبدأ “إدارة الأزمة” في التعامل مع منطقتنا؛ بمعنى استغلال أزمات هذه البلدان السياسية أو الاقتصادية لتحقيق الأهداف الأمريكية في المنطقة، لكن الأمر تطور حينئذ وبفضل أطروحة بريجينسكي هذه؛ إلى صناعة الأزمة وإدارتها ليصبح أكثر تعقيداً بتراكم وتراكب “مجموعة أزمات” ربما تطلب الموقف أحياناً “مد الأزمات” وكل هذا عبر ما يسمى بقوس الأزمة، ورغم كون هذه المصطلحات قديمة بالفعل منذ فترة السبعينات و ربما قبل ذلك، إلا أنها فيما يبدو مازالت سارية حتى الآن وفاعلة حتى الآن وهو ما اتضح في الفترة الأخيرة في كيفية السيطرة على دول الربيع العربي وخاصة منها ما وصل الإخوان المسلمون فيها لسدة الحكم نتيجة لتلك الثورات.

لكن الجديد والخطير هو تطور الموقف من مجرد صناعة الأزمة وتكريسها في مجموعة أزمات ثم مد تلك الأزمات، إلى حالة جديدة تماماً وخطيرة على بنية المنطقة بل وقد تهدد العالم بالانفجار، وهي استراتيجية “إدارة الفوضى” أو “الفوضى الخلاقة” كما أسمته كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في عهد جورج دبليو بوش وعرابة الحرب على العراق.

وخطورة هذه الاستراتيجية هي أنها تحيل مجموعة الأزمات آنفة الذكر إلى فوضى عارمة تدمر مقومات تلك الدول كدول مركزية أصلاً بمعنى تدمير هيكل الدولة السياسي نفسه عبر حروب ومعارك أهلية رهيبة وتحيل الدولة إلى حالة البداءة التي تقوم على فوضى من العصبيات المتطرفة سياسياً واقتصادياً وتأهيل العقل الجمعي للشعوب لتقبل الدموية المفرطة كحل سياسي ومجتمعي وحيد لخروج تلك المجتمعات والدول من حالة الفوضى، فيما يشبه طمع الظمآن في السراب.

وكل هذا إنما يراد به ضمان بقاء الهيمنة الصهيوأمريكية على العالم بضمان التفوق والسيادة عن طريق تفتيت الآخرين و الحرص على بقائهم في حيز التخلف على طريقة “فرق تسد”

وكل هذا إنما يراد به ضمان بقاء الهيمنة الصهيوأمريكية على العالم بضمان التفوق والسيادة عن طريق تفتيت الآخرين و الحرص على بقائهم في حيز التخلف على طريقة “فرق تسد” الشهيرة، ولذلك ينص بريجينسكي فى أهم كتبه “لوحة الشطرنج العظمى”: “أمريكا الآن هى القوة العظمى الوحيدة. و يوراسيا هى ساحة المواجهة الأساسية فى العالم و بالتالى, فما يحدث لتوزيع القوى فيها سيكون هو العامل الحاسم فى الهيمنة الأمريكية على العالم” و”يوراسيا” هو نحت اصطلاحي من أوروبا و آسيا و إن كان يشمل أيضاً منطقة البحر المتوسط و قناة السويس.

ولذلك فستحرص أمريكا دائماً على منع أي نظام يكرس أي نوع من التحالفات الجديدة بين دول الشرق الأوسط وخاصة مصر و آسيا الوسطى كتركيا وإيران باعتبار أن الدول الثلاثة تمثل المثلث الإقليمي الاستراتيجي، وبما قد يؤهل هذه الدول في حال عمل محور إقليمي للاستقلالية والسيطرة على مواردها، ولعل هذا أيضاً ما أقلق بعض الدوائر العالمية من التقارب المصري الإيراني والتر كي بالاعتبار السابق، بل والبرازيلي باعتبار البرازيل ودول أمريكا الجنوبية قوة نامية وصاعدة لا يستهان بها وقد بدأت بالفعل في الانعتاق من الهيمنة الأمريكية والغربية.


التعليقات