الوظيفة النفسية للتكفير عند الخوارج قديما كانت «احتكار الألوهية»، كان المقصد في النهاية: «أنا فقط من يعبد الله»، وهي صيغة مُغرقة في اللامباشُرة لمقولة: «أنا الله»، تلك الصيغة التي يدندن حولها الباطل عموما من زوايا متعددة ومتداخلة وبدرجات متفاوتة. ولذلك كانوا «كلاب أهل النار» لأنهم أنصاف يهود، اليهودي أيضا مراده دائما تأكيد امتيازه عند الله بدعوى البنوة، كالمسلم الذي يستمتع بأنه هو وقلة معه من يحققون عبادة الله. ولذلك كان الخوارج مسالمين لأهل الكتاب لأنهم لا ينازعونهم مسمى الإسلام، فالأمر بالنسبة لهم هو انتزاع واحتكار لأصل العلاقة مع الله لا أكثر.
ونحن أكثر حرصا من أن نتورط في تناول التكفير المعاصر كامتداد للخوارج قديما أو الإرجاء المعاصر كامتداد للإرجاء قديما كما تفعل بعد الدراسات، ونعتقد بدلا من ذلك أن الجرثومة النفسية التي انشطرت عنها الفرق المبتدعة قديما، ومنها الخوارج، تختلف تماما عن نظيرتها التي انشطرت عنها الحركات الإسلامية حديثا، ومنها جماعات التكفير، وربما تواتينا الفرصة فيما بعد لنعرض نظرية متكاملة حول آلية انشطار الفرق الضالة قديما وكيف بدت على هذا النحو.
غير أننا نود فقط الخلوص من موضوع الخوارج بحقيقة هامة نود استصحابها ونحن نقترب من مسألة التكفيريين حديثا، وهو الوصف الذي اشتهرت به مقولتهم، أي أنها: «حق يراد به باطلا». والفائدة من التذكير بهذا الوصف هو أن نؤكد أننا حين نتحدث عن (التكفيريين) في سطورنا تلك فنحن لا نعني بهم بالضرورة (المخطئون) في أحكام التكفير غلوّا، بل نعني بهم (المستمتعون) بممارسة التكفير حتى ولو كان أحكامهم صحيحة، الطبيعة النفسية للدراسة تفرض علينا تجاهل ما هو صواب وما هو خطأ، إن مناط حديثنا هو (الاستمتاع بالتكفير) لا أكثر، أما أحكام التكفير نفسها فمنها الحق ومنها الباطل.
فالتكفير حديثا إنما يستمد تلك الطبيعة (الممتعة) أيضا من السياق المحيط به والحاكم للأنماط الإسلامية المتزامنة معه أيضا
إذا كان التكفير الخوارجي قديما يستمد طبيعته (الممتعة) مما يتخلله من خيالات الألوهية، شأنه في ذلك شأن الفرق الضالة المتزامنة له، (وسنرجئ البرهنة على ذلك إلى مناسبة أخرى لو بإذن الله)، فالتكفير حديثا إنما يستمد تلك الطبيعة (الممتعة) أيضا من السياق المحيط به والحاكم للأنماط الإسلامية المتزامنة معه أيضا، فالتكفير المعاصر أقرب إلى الإرجاء المعاصر (من حيث الأساس النفسي) مثلا منه إلى التكفير قديما رغم تشابه كل منهما ظاهرا.
الوظيفة النفسية للتكفير حديثا
التكفير المعاصر جزء من الحركة الإسلامية المعاصرة كوحدة في الزمان، والعلة السببية لوجوده هي العلة السببية لكافة الأنماط الإسلامية الأخرى وهي:
محاولة حل أزمة «الاغتراب عن المجتمع»، فإذا كان الإخوان يمثلون حلا لتلك الأزمة يعتمد على «محاكاة المجتمع»، وإذا كان السلفيون يمثلون حلا يعتمد على «الهروب من المجتمع»، فنحن الآن بصدد نمط «احتقار المجتمع»، حيث الممارسة التكفيرية وسيلة خيالية للظفر، إنه نوع من أنواع العدوان المتخيل والذي يتخذ من (القيمة) مسرحا له وجودا وعدما.
التكفيري لا يريد تغيير المجتمع، بل يريد فقط الحصول من المجتمع على ما يحافظ به على وجوده وما يسد رمقه من أفراد، إنه يود الإبقاء على هذا المجتمع كما هو ليستمر كموضوع للاحتقار، الاحتقار في النهاية هو شكل من أشكال التخفف من عبء المواجهة، ودفاع ضد قلق الاغتراب: «ليس علي أن أنشغل بنظراتهم، من هم في النهاية، أليسوا مجموعة من القطيع الضال؟ يكفيني أني متفرد بالإيمان، وأي عزاء أبلغ من هذا!»
العلة (النفسية/الاجتماعية) بدلا من العلة الاجتماعية.
ولدينا ما يبرر حماستنا للعلة النفسية/الاجتماعية بدلا من العلة الاجتماعية التي لجأ إليها الشيخ أبو مصعب السوري لفهم التيار التكفيري، وإليكم نص ما قال:
«من المهم جدا لفهم ظاهرة التكفير أن نفهم المعادلة المكونة له والتي اختصرناها بأنها:حاكم كافر ظالم + جلاد سفاح مجرم + عالم منافق للسلطان + صحوة عاجزة + عامة يغلب عليهم الفساد + شاب متحمس جاهل = ميلاد تيار التكفير.»
فالإنسان التكفيري ليس متحمسا ومهاجما وثائرا إلا على ما يبدو عند السطح
الحقيقة أن العناصر الاجتماعية المذكورة (الواقع المكفهر والحماسة الزائدة) لا تمثل إلا البيئة المناسبة التي تستطيع فيها أزمة الاغتراب أن تتخفى في شكلها التكفيري، فالإنسان التكفيري ليس متحمسا ومهاجما وثائرا إلا على ما يبدو عند السطح، غير أنه على مستوى التخييل مجرد مدافع عن نفسه ضد قلق الاغتراب، متألم من ذلك القلق، لا يسعى بتكفيره إلى إحقاق الحق ورد المظالم، بل إلى إحلال الشعور بالتعالي على المجتمع محل الشعور بالاغتراب عنه، إنه كسول من الناحية الدعوية والجهادية لأنه قد استطاع أخيرا حل مشكلته بذلك الانتصار المتخيّل.
إن بين (الواقع المكفهر والحماسة الزائدة) وبين فعل التكفير حلقات مفقودة، إذ أن الحماسة ليست مقصورة على التيار التكفيري فقط، فما من تيار إلا ويتأسس على حماسة مؤسسيه وأبنائه سواء كان تكفيريا أو سلفيا أو إخوانيا، ثم إن نظرية الحماسة تلك لا تفسير كيف أن الحماس الزائد ينعدم فجأة عند الإنسان التكفيري إذا تعلق الأمر بالجهاد أو بالدعوة إلى الله، ولا يبدو بعنفوانها إلاّ في فعل التكفير ذاته والاستعراض به.
التكفيري ليس متحمس لتغيير المجتمع، بل مجرد شخص عاجز قام باختزال صراعه مع المجتمع في اجترار الشعور بالتعالي عليه.
الفرق بين التعالي الإسلامي السوي والتعالي التكفيري المَرضي.
ذكرنا قبل ذلك أن الظاهرة الإسلامية هي ظاهرة استعلاء إيماني على الحضارة الغربية بوصفها جاهلية، وذكرنا أيضا أن ظاهرة التكفير المنبثقة من الظاهرة الإسلامية كخلل هي ظاهرة استكبار تعويضي استخدم أحكام التكفير تبريرا له. فما هو الفارق بين الاستعلاء الواجب والضروري بالإيمان والذي هو أساس الظاهرة الإسلامية وبين الاستكبار الذي يتخذ من أحكام التكفير وسيلة له والذي هو أساس الظاهرة التكفيرية؟
الحقيقة أن أساس التمايز بينهما هو موضوع الشهود (أي الانتباه والاهتمام والنظر)، فإذا كان موضوع الشهود عند الإنسان هو ذاته، (أي كان متمحورا حول ذاته)، كان استكباره سابق على تدينه زمانا، وكان تدينه وسيلة لتبرير استكباره الكامن فيه أصلا، ويشعر بأن تدينه هو حق اكتسبه لنفسه لفضل فيه هو وليس نعمة وهبها الله له تفضلا منه هو سبحانه، قد يكون هذا الحق المتوهَّم هو قدرته الذاتية على التدين، أو ذكاء أو علم أو نسب، ولكنه غالبا ما يكون مجرد شعور غامض بالأفضلية لا يستطيع صاحبه البوح به، لكنه مع غموضه شعور قوي فعال. ويفرح كلما ظهر، كمؤمن، في قلة من الناس وسط كثرة كافرة، ويستبشر كلما سمع من أحدهم مقولة مكفرة، وقد يختبر من حوله أحيانا ليوقعهم في ذلك، ويشعر بالظفر حين يصل لمبتغاه، وذلك أن وجوده في نفر قليل من المؤمنين يؤكد ندرة معدنه وما ظنه في نفسه من فضل، وهو لذلك لا يغضب لوقوع أحدهم في الكفر، بل يبتسم بهدوء وقد أيقن أنه أفضل منه.
وذلك أنه أصلا يشعر بينه وبين نفسه أنه غير مستحق لهذا الإيمان، بل يراه نعمة ممنوحة له من الله دون وجه استحقاق
أما الاستعلاء الواجب والضروري بالإيمان، فصاحبه يشعر بعلوه على الكفار بعد إيمانه وبسبب منه وليس العكس، أي علوه بسبب تدينه وليس تدينه بسبب علوه أصلا. وذلك أنه أصلا يشعر بينه وبين نفسه أنه غير مستحق لهذا الإيمان، بل يراه نعمة ممنوحة له من الله دون وجه استحقاق، وهو يشعر دائما بالامتنان تجاه الله لوجوده كمتدين، وعلى عكس المستكبر بتدينه، فالمؤمن يفرح بكثرة المؤمنين حوله وبقلة العصاة والكفار، وذلك أن في هذه الكثرة تأكيدا لمقام الله سبحانه وإنكارا لمقامه هو، ولذلك لا يختبر من حوله، ولا يفرح بوقوعهم في المعصية أو الكفر، بل يغضب لأن تلبسهم بذلك الكفر يستفز شعوره بعظمة الله سبحانه وعلو مقامه.
التعليقات