معنى الحج

تمهيد

لا بد لنا من التمييز في الحج بين علتين مختلفتين ومتداخلتين، أولاهما العلة النفعية الأخلاقية، وهي ذلك الأثر الحاصل في الوعي من ممارسة شعائر الحج، من الشعور بوحدة الأمة، وترسيخ قيم التلبيَة، وربط الأمة ببدايتها التاريخية وما اقترن بتلك البداية من عبر إيمانية، وتحصيل التقوى {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِين}[الحج:37].

أما العلة الثانية فهي العلة القدرية الكونية، أي الضرورة العقلية المتعلقة بحدوث الحج في العالم كظاهرة من حيث هي جزء من الوجود ملائم له ومتسق معه، شأنه في ذلك شأن أي ظاهرة أخرى. العلة الأولى موضوعها أثر الحج في النفس، والثانية موضوعها اتساق ظاهرة الحج مع العالم عقليا واستنتاجها منطقيا. العلة الأولى تحصيلها واجب شرعا على المستطيع، ولا اعتبار فيها لفهم الإنسان لمغزاها الكوني ولعلاقتها بالوجود، والعلة الثانية تحصيلها حتمي ضروري مقدر، والجانب الأخلاقي التربوي فيها مجرد عارض لها. وكلاهما حاصل بشعائر الحج.

من اليسير علينا الآن، وعلى هدى من ذلك التمييز، أن ننتقل من إحدى العلتين إلى الأخرى، ومن ثم، أن نحصر، كموضوع للفكر، الحج كمعلول للحكمة الإلهية وفقط.

السعي بين الصفا والمروة والذبح

لن يجانبنا الصواب مثلا إذا قلنا أن محاكاة البداية مثلا، وهو معنى مشترك بين شعائر بارزة في الحج، وهي: السعي بين الصفا والمروة كمحاكاة لفعل السيدة هاجر، وذبح الأضحية كمحاكاة لفعل نبي الله إبراهيم، الغرض الأخلاقي التربوي منها هو إحداث صلة نفسية بين الأمة وبين بداياتها التاريخية وما تضمنته من عبر إيمانية، لكننا لو توقفنا عند ذلك لا أحسب أننا نكون بذلك قد أحسنا صنعا في استكناه معنى الحج، خاصة وقد سنحت لنا الفرصة بتناول تلك (المحاكاة) بشكل آخر، فإذا كانت (المحاكاة) هي فعل يقصده الإنسان لغرض تربوي، فمقدورنا القول بإن حاصل فعل المحاكاة نفسه هو تدبير ذو قصد إلهي الغرض منه إحداث (مماثلة) بين فعل قديم وآخر يتجدد مع كل حج، أو هو (تمثيل) لحقيقة و(ترميز) لها.

الكعبة والبيت المعمور

ويأتينا العون من ناحية أخرى للتأكيد على (التمثيل) في الحج هو غرض مستقل عن المعنى التربوي وعن قصد المحاكاة الصادر عن الإنسان، وذلك أن الكعبة نفسها هي في وضع (تماثل) مع حقيقة أخرى هي (البيت المعمور)، ولا شك في أن ذلك التماثل يخلو تماما من أي معنى تربوي مباشر للحجاج، بل وليس عليهم أن يعرفوه أصلا، فقد صح عن علي رضي الله عنه، أن رجلا سأله: «ما البيت المعمور؟» فقال: «بيت في السماء يقال له: الضُّراح وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، لا يعودون فيه أبدا». وهذا التماثل هو ما أشار إليه الشيخ «رفاعي سرور» – رحمه الله- في كتاب «قدر الدعوة» في معرض الحديث عن كونية الحركة الإسلامية وارتباطها بالوجود ككل.

بئر زمزم ونهر الكوثر (حوض النبي)

بل لقد أضاف الشيخ في كتاب «علامات الساعة.. دراسة تحليلية» أمرا آخر يتعلق بمسألة التماثل، فتحدث عن العلاقة بين (بئر زمزم) وبين (نهر الكوثر) والذي هو حوض النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم القيامة، فقال: «زمزم.. الماء الباقي إلى قيام الساعة، دليلًا على بقاء أمة الأنبياء؛ فامتداد الماء هو امتداد الحياة، أي هو امتداد الذرية، وامتداد الرسالة، ولذلك كان نهر الكوثر، والذي هو حوض النبي في الجنة، عزاؤه حين عيرته قريش بأنه أبتر لا ولد له، أي لا امتداد له، فأنزل الله سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)}».

وفي مقالة له بعنوان: «خصائص الشريعة.. تفسير لغوي» قال:

«ولكن الارتباط بين الشريعة والماء لا يقف عند هذا الحد، بل يمتد ليفسر دلالة حوض الكوثر على نهر الكوثر الواصل من الجنة؛ ليتبين لنا اختصاص حوض الكوثر بالالتزام بالشريعة؛ حيث منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -الذي بلغ منه الوحي والشريعة- سيكون فوق حوض الكوثر؛ لتتوافق الشريعة المُبلَّغة من فوق المنبر مع حوض الكوثر. ودليل ذلك ما ورد في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي? قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي». حيث يوضع منبر الرسول على حوضه في الجنة يوم القيامة، ليصعده ويدعو المسلمين المتبعين له ليشربوا ويرتووا من ماء الحوض، كما كان يدعوهم إلى دين الله في الدنيا».

ورغم أن دلالة النصين هو وجود (معنى مشترك) بين بئر زمزم وبين نهر الكوثر، هو الماء وعلاقته الرمزية بالهداية، إلا أن المسألة على ما يبدو ليست مجرد اشتراك في المعنى، بل (تماثل) مباشر ورمزية صريحة بين نهر الكوثر وبئر زمزم، وليست حقيقة الماء سوى أحد عناصر تلك العلاقة الرمزية، وذلك أن كلاهما، أي زمزم والكوثر، مرتبط بالنبي? ارتباطا واضحا، فالكوثر هو حوض النبي، وزمزم أعيد حفرها قبيل بعثته، وغسل بها صدره.

ونفترض أننا بعد أن حررنا شعيرتي «السعي» و «الذبح» من وظيفتهما التربوية، واعتبرناهما فعلا إلهيا يقصد إلى إحداث مماثلة رمزية مع حقيقتين قديمتين تناظرانهما، نكون قد استخرجنا من الشعيرتين مثالين، ونفترض بعد ذلك أنه يجب إدراجهما مع (الكعبة/البيت المعمور) و(زمزم/ نهر الكوثر)، وأن نعتبر هذا التماثل من جنس واحد وصادر عن قصدية واحدة، وأن كل ما يميز الشعيرتين المذكورتين عن الكعبة وعن بئر زمزم هو أن العنصر الإنساني هو أحد وسائل حصولهما لا غير.

ولا يخفى عليكم أن القطع بأن «الحج أمثلة» يختلف تماما عن القول بأن «بعض مناسك الحج أمثلة»، وأن المسافة بيننا وبين الولوج إلى معنى الحج هي أقصر ما تكون إذا عثرنا على أي صفة جامعة له، أي إذا دللنا على المقولة الأولى دون الثانية، ومن هنا تبرز ضرورة التوجه رأسا إلى الشعيرة الأكثر جوهرية بالنسبة لفريضة الحج، أي شعيرة الوقوف بعرفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»(الألباني/صحيح النسائي).

الوقوف بعرفة وأهل الأعراف

ولحسم ما إذا كان موقف عرفة له حقيقة تناظره أو تماثله، أحيلكم إلى نتائج بحثنا بعنوان: «جبل عرفات في الكتاب المقدس ووظيفته في العهد الإبراهيمي»، فقد اتضحت من خلاله الصلة الأكيدة بين موقف عرفة وبين مشهد «رجال الأعراف» المذكورين في الآية: «وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم»، فقد سردنا هناك كل الدلائل التي استبعدنا فيها تفسير وضع هؤلاء الرجال بأنهم يمثلون حالة إيمانية بينية أو متوسطة، وأكدنا فيها أنهم على العكس من ذلك، يمثلون حالة رقي إيماني، ثم حصرنا تلك الحالة في الأمة المحمدية في حال وضعيتها كشاهدة على الأمم يوم القيامة. وليس هناك داعي لتكرار ما ذكر هناك، وكل ما نود أن نضيفه هنا هو أن نتائج ذلك البحث تتناغم تماما مع وضعية سائر المناسك المتعلقة بالحج كأمثلة لأمور أخرى.

رمي الجمرات وضرورة القتال في سبيل الله

إننا إذا لم نقترف خطيئة التعميم إذا قلنا بأن جوهر الحج هو كونه أمثلة حسية لحقائق غيبية، ولا شك بأن سمة «الغيبية» في تلك الحقائق بحاجة إلى تحديد، وإلا عدم تركها بهذه العمومية، غير أنه من الميسور باستقراء الحقائق الممثلة إدراك إنها تلك الغيبيات الخاصة بالأمة المحمدية، وأعتقد أن المسألة أصبحت مستقرة لدرجة أنا نستطيع من خلالها فهم العلاقة بين تحريم القتال في الأشهر الحرم وبين رمي الجمرات، فهذه الشعيرة مثال، ولا بد لحضور المثال من غياب حقيقته الممثلة.

الحقيقة أن مسألة تحريم القتال في الأشهر الحرم تجعل القتال في سبيل الله، وبغير منازع، هو سر بقاء تلك الأمة وجوهر وجودها، أقول بغير منازع لأنه عادة ما تستحضر واقعة رمي نبي الله إبراهيم للشيطان بالحصى حين حاول إثناء إبراهيم عن ذبح إبنه، ونحن لسنا مضطرين إلى إنكار تلك الواقعة، بل كل ما هنالك هو أننا نزعم أنها هي ذاتها مثال لما سيحدث بعد ذلك بقرون حين تنشأ الأمة المحمدية منبثقة من حقيقة القتال في سبيل الله، فمسألة التماثل بين الحقائق المتعلقة بالأمة المحمدية ليست على الدوام حقيقة قديمة تمثلها حقيقة حديثة، بل العكس مضطرد أيضا، فالمثال يظهر قبل حقيقته، لأن عنصر الغياب، وهو العنصر المحقق لظهور المثال، يتحقق به غياب الحقيقة في الماضي وغيابها في المستقبل أيضا، فواقعة إبراهيم مع الشيطان هي مثال لما سوف يأتي، وبذلك تكون هي ورمي الجمرات مثالين لحقيقة اعتمادية الأمة على القتال في سبيل الله لبقائها.

فكرة التعايش هدم للأمة

والخبر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) يؤكد تلك العلاقة بين القتال وبين الأمة، فقد قال، صلى الله عليه وسلم: «عليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام» (السلسلة الصحيحة للألباني)، وقال: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي : أن لا يهلكها بسنة بعامة، ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي : يا محمد ! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، لو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضا . وإنما أخاف على أمتي ! الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبًائل من أمتي بًالمشركين، وحتى تعبد قبًائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» (صحيح سنن أبي داوود).

ولكم بعد ذلك أن تتخيلوا الجرم الذي يمارسه أصحاب فكرة التعايش والمترصدين لكل نزعة صراعية مع أعداء الأمة، كيف يعملون، بقصد وبدون قصد، على هدم أهم أركان الأمة وأبرز ثوابتها.

العلة في أن الأمر بالذبح كان رؤيا

ويؤكد وضعية واقعة إبراهيم عليه السلام كمثال لأمر سوف يقع، أن الشيطان تمثل له، أي وقع في مجال الحس لدى إبراهيم، عليه السلام، محققا بذلك شرط (المثال)، وهو دخوله في مجال الحس الإنساني. بل وليست تلك الواقعة هي المثال الوحيد لما سيأتي من أمر الأمة المحمدية، فعلينا أن نذكر أن واقعة الذبح نفسها لم يؤمر بها نبي الله عن طريق الوحي، بل مُثِّل لها برؤيا معروفة.

الخلاصة أن الحج هو رؤيا تراها الأمة، موضوعها هو كل ما يتعلق بتلك الأمة مما غاب عنها، سواء ما يتعلق بنشأتها أو وجودها أو مصيرها، وهي في ذلك من جنس الرؤيا المعروفة، لدرجة أنه ينبغي النظر في مسألة (الأمثلة الحسية) نظرة أشمل من ذي قبل، وأن نجردها من صورها المألوفة والتي صاغها منها الشيخ رفاعي سرور –رحمه الله- في كتابه «قدر الدعوة»، وكما أن الرؤيا تكون أصدق ما يكون عند الإقتراب الإلهي من الفرد في الثلث الأخير من الليل، فالحج يتحقق عند الإقتراب الإلهي من الأمة في يوم عرفة. وليس علينا إذا كي تتعمق معرفتنا بمعنى الحج سوى أن نسبر غور مسألة (الأمثلة الحسية للغيبيات)، فقد تبين لنا أن الحج ليس سوى أحد تجلياتها.

لم يبق في الموضوع سوى الحجر الأسود، وسنفرد له قولا بإذن الله.


التعليقات