الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ?: «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً؛ لاَ يَبُولُونَ، وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ، وَلاَ يَتْفِلُونَ، وَلاَ يَمْتَخِطُونَ أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ الأَنجُوجُ -عُودُ الطِّيبِ- وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ» ([1]).
في البداية يجب تقرير أن هناك فارق بين التصور والتخيل
فالتصور قائم على التجريد العقلي للأمر بصفته الموضوعية.
والتخيل قائم على التكييف الذهني للأمر بصفته الحسية.
والقاعدة في تلك المعالجة هي قطع الصلة بين التصور والتخيل كما قال رسول الله في الحديث القدسي:
«قال الله عز وجل: أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ، واقرءوا إن شئتم: {فلا تَعْلَمُ نَفْس ما أُخْفِيَ لهم مِنْ قُرَّةِ أعْيُن} [ السجدة: 17]» ([2]).
حيث يكون في الجنة ما لا يمكن لأحد من البشر تخيله.
والنصوص الشرعية تعالج الإشكالات المتعلقة بأمر الأحجام والمساحات مثلما ورد في الجنة
فالجنة أعلاها الفردوس وسقفها عرش الرحمن، فتكون الجنة بذلك أوسع المخلوقات بعد العرش:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
وعلى ضوء هذا التفسير نفهم النصوص التي يعجز الإنسان عن تخيلها:
مثل: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، لا يقطعها» ([3]).
ويقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وظل ممدود}.
وكذلك يكون الأمر في خلق آدم مناسبًا للجنة، بصورته وطبيعته [4]
وهي صورة وطبيعة أهل الجنة جميعهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة ” َ علَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ» ([5]).
ولكن آدم بمجرد معصيته تغيرت خلقته ومن ذلك ظهور السوءة بدليل قول الله عز وجل (فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (طـه:121)
فنزل إلى الأرض لتكون صورته مناسبة لها في الباية ثم إقتضى بقاء ذرية آدم في الدنيا تناقص خلقهم ليتناسب مع هذا البقاء.
ظاهرة التناقص في الخلق:
وهي كما أخبر الرسول في الحديث «فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن» ([6]).
وهذا التناقص هو السبب في العجز عن تخيل خلق آدم في بداية خلقه بالصورة المناسبة للجنة
وقد سجل القرآن مراحل تاريخية في اتجاه هذا التناقص، ومنها مرحلة قوم عاد حيث أنها من أقدم مراحل التاريخ البشري التي سجلها القرآن حيث قال فيهم: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69].
التوازن الكوني:
ولكن خلق آدم وتناقص الخلق حتى الآن يحدث في سياق كوني يثبت بدوره حقيقة كونية هائلة وثابتة عند كل البشر وهي ظاهرة التوازن الكوني.
والتوازن الكوني هو ضبط العلاقة بين العناصر الكونية من حيث الأحجام والمسافات والعدد والحركة، ويمتد إلى العلاقة بين الحجم والعمر والعدد في وجود العنصر الواحد.
وقد أورد كريسي موريسون ظاهرة التوازن بين العدد والحجم والعمر فقال:
وحول تلك الخلائق التي تدب على الأرض أنواعا وأجناسا وأشكالا وأحجاما فلا يحصيها إلا الله وأصغرها كأكبرها: معجزٌ في خلقه، معجزٌ في تصريفه، معجزٌ في تناسب حياته على هذه الأرض، لا يزيد جنس معين عن حدود معينة تحفظ وجوده وامتداده، وتمنع طغيانه على الأجناس الأخرى طغيان إبادة وإفناء واليد الممسكة بالأنواع والأجناس، التي تزيد عليها وتنقص بحكمة وتركب في كل منها من الخصائص والقوى والوظائف ما يحفظ التوازن بينها جميعا.
فالنسور جارحة عمرها مديد، ولكنها في مقابل هذا نذرة قليلة البيض والفراخ بالقياس إلى العصافير، وكيف كانت تقضي على جميع الطيور، والأسود كذلك في عالم الحيوان كاسرة ضارية، فكيف لو كانت تنسل كالظباء والشاه، إنها كانت تقضي على كل لحم في الغابة، ولكن اليد التي تمسك بالزمام تجعل نسلها محدودًا بالقدر المطلوب، وتكثر من ذوات اللحوم من الظباء والشاه وما إليها لسبب معلوم، والذبابة الواحدة تبيض في الدورة الواحدة مئات الألوف وفي مقابل هذا لا تعيش إلا حوالي أسبوعين اثنين، فكيف لو أفلت الزمام وعاشت الذبابة الواحدة أشهر أو سنين- لكان الذباب يغطي الأجسام، ويأكل العيون.
ولكن اليد المدبرة هناك تضبط الأمور وَفق تقدير محسوب، فيه حساب لكل الحاجات والأحوال والظروف ([7]).
ويقول في موضع آخر: ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى صورة من هذا التوزان في علاقات بعض الأحياء ببعض، كما أشرنا بشيء من التفصيل في صورة أخرى إلى التنافس في بناء الكون، إن الجوارح التي تتغذي بصغار الطيور لأنها قليلة البيض قليلة التفريخ فضلا على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار، ولو كانت مع عمرها الطويل كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في المواطن لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها، أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان، وللقيام بأدوارها الأخرى ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض ، بغاث الطير أكثرها فراخًا وأم الصقر مقلات نذور وذلك للحكمة التي قدرها الله، كما رأينا، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح، والذبابة تبيض ملايين البويضات فيها بهذه النسبة لغطي الذباب الأرض بنتاجه وأصبحت حياة كثير من الأجناس، وأولها الإنسان مستحيلة على وجه الأرض، ولكن عجلة التوازن لا تختل في يد القدرة التي تدبر هذا الكون، وازنت بين كثرة العدد وقصر العمر؛ فكان هذا الذي نراه، والميكروبات وهي أكثر الأحياء عددًا، وأسرعها تكاثرًا وأشدها فتكًا، هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمرًا، تموت بملايين الملايين في البرد ومن الحر ومن الضوء ومن أحماض المعدات ومن أمصال الدم ومن عوامل أخرى كثيرة ولا تتغلب على عدد محدود من الحيوان والإنسان، ولو كانت قوة المقاومة طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء ([8]).
وفي الإنسان تجتمع كل حقائق التوازن الكوني:
حيث يبقى التوازن بين حجمه وعمره وعدده على مدى الزمان كله .
وقاعدة التوازن في وجوده هي أنه «كلما زاد العدد صغر الحجم ونقص العمر» ففي الوقت الذي كان فيه حجم الإنسان كبيراً وعمره طويلاً كان عدده قليلا، ففي بداية الخلق كان آدم طوله ستون ذراعًا وكان عمر أبنائه طويلًا عندما كان عددهم قليل.
وكلما مر الوقت تغير الحجم فأصبح قليلا وقل العمر وسار عددهم يزيد.
وليس أدل على طول عمر آدم وأبنائه من أن يجعل آدم لابنه من عمره أربعون عامًا
وعن ابن عباسٍ قال: لما نزلت آيةُ الدين قال: قال رسُولُ الله : «إن أول من جحد آدمُ عليه الصلاة والسلامُ، قالها ثلاث مراتٍ، إن الله لما خلق آدم عليه الصلاة والسلامُ مسح ظهرهُ فأخرج منهُ ما هُو ذارئٌ إلى يوم القيامة، فجعل يعرضُهُم عليه فرأى فيهم رجُلًا يزهرُ فقال: أي رب، أي بني هذا؟ قال هذا ابنُك داوُدُ، قال: أي رب، كم عُمرُهُ؟ قال: ستون سنةً قال: أي رب زد في عُمره، قال: لا إلا أن تزيدهُ أنت من عُمرك، فكان عُمرُ آدم ألف عامٍ، فوهب لهُ من عُمره أربعين عامًا، فكتب اللهُ عز وجل عليه كتابًا وأشهد عليه الملائكة، فلما حُضر آدمُ عليه السلام أتتهُ الملائكةُ لتقبض رُوحهُ فقال: إنهُ لم يحضُر أجلي قد بقي من عُمري أربعُون سنةً، فقالُوا: إنك قد وهبتها لابنك داوُد، قال: ما فعلتُ ولا وهبتُ لهُ شيئًا، وأبرز اللهُ عز وجل عليه الكتاب فأقام عليه الملائكة» ([9]).
فنرى من الحديث أن آدم كان عمره ألف سنة، كما أخبر الله عن نوح وهو قريب من آدم لأنه أول رسول لأهل الأرض فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا.
وبذلك يتبين أن مناقشة طول آدم دون النظر الى تناسبه في البداية مع واقع الجنة ودون النظر الى الظاهرة الثابتة بتناقص الخلق والى قاعدة التوازن الكوني تكون مناقشة ناقصة خاطئة لايثيرها إلا المتهمون بمحاولات التضليل التى يلاحقها الفشل لأنهم لايفهمون أن قوة التصور الإسلامي وإحكام منهجه هي الحرز الحقيقي من تلك المحاولات المثيرة للقرف والإشمئزاز
الهوامش
([1]) صحيح البخاري ح (3149)، وصحيح مسلم ح(7328) : ومعنى السماء في قول رسول الله: ستون ذراعا في السماء: جهة العلو والصعود مثل تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24].
وخلق آدم عليه السلام على صورته، معناه: لم يخلقه طفلا ثم صبيا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا.
([2]) صحيح البخاري ح (3072)، صحيح مسلم ح (7310).
([3]) صحيح البخاري ح (4599)، صحيح مسلم ح (7314).
[4] (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى) (طـه:118)
(وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) (طـه:119)
([5]) صحيح البخاري ح (3149)، وصحيح مسلم ح(7328).
([6]) صحيح البخاري ح(5873).
([7]) في كتاب: الإنسان لا يقوم وحده.
([8]) المرجع السابق.
([9]) مسند أحمد ح (3519).
التعليقات