1ـ الثبات عند المناظرة:
{…فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].
إياك أن تفاجأك أجراس الكلمات الرنانة وتابعها من الشيطان، ولا يحيرك ألغاز الأحاجي الملبسة، ولا يغرنك قرع الأصوات الطبلية الفارغة أو تنطع فم واسع، فقد هلك المتنطعون، ولا يهزنك الجمهور العريض إذا صفق أو القرين الخبيث إذا تبسم إعجاباً بكلام خصمك، أو همهمات التأييد والاستحسان، فأنت لا تناظر إلا بالحق وللحق، ولا تبالغ قبل أن تبلغ فتناظر قبل أن تملك ملكات المناظرة، وقوتك تستمدها من قوة ما تؤمن به.
ولا تجادل مفردًا قومًا عددًا فيشتتوا فكرك أو يلبسوا عليك أمرك، وإن خفت فلا تناظر فالخائف ملعثم الفكر قبل اللسان.
وإن ناظرت قوماً فليكن همك هدايتهم، وإن كلمتهم فبلسانهم حتى يفهموك ويزدادوا ثقة في كلامك، ولكن احذر أن يجرك لسانهم إلى ساحتهم بأن تكل الحديث كل الحديث إليه، بل يكون لسانهم جندياً إلى نصرك ومطيةً إلى غايتك.
أبدِ لخصمك موافقتك على بعض الحق الذي قد يدخل رغمًا عنه في كلامه ولو أريد به باطل، ليعرفوا عدلك فترق قلوبهم للحق الذي علمك إياه، واجعل من شعب الحق في كلامه سبيلاً إلى تأييد فكرتك فإن الحق يؤدي بعضه إلى بعض، وأهل مكة أدرى بشعابها، لا ترفع صوتك فإن الإناء الفارغ يحدث من الضجيج أكثر من غيره، واحذر مجادلك أن يقعد لك قاعدةً، أو يؤطر إطاراً من عندياته أو يزعم أنها من لازم كلامك فيحاكمك إليها.
فإن استشهد بأن أكثر الناس قالوا فقل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]. أو قال: “أنه من المعلوم” فاعلم أنه لا إله إلا الله، أو من المعروف فقل: “قولٌ معروف ومغفرةٌ خير” وإن حاجّك بأن الكافة اتفقوا، فادعه إلى ادخلوا في السلم كافة، وإنّما عنيت بهذه الإشارات -أيها اللبيب- أن ترد متشابهه إلى محكمك، وعموماته إلى خصوصياتك، وأن تحيل المائع الذي لا شكل له إلى حقٍ ثابت، والجرف الهار الذي يريد أن يجرك إليه إلى جبل راسٍ، اجعل من إشارات يدك رسماً يرسم كل حرف تنطق به، أو مثالًا ينحت معتقداتك، واجعل نظراتك عساسًا يخترق الأفكار ويأخذ بالنواصي والأقدام.
أجب على أي سؤال يدور في رأسه قبل أن يسألك عنه، مما أرشدتك إليه الفطنة وعلمتك التجارب، بانيًا النتائج على المقدمات، تسحب مخزونه وتربك فكره وتجعله في وضع المتلقي لما تمليه عليه، ولذا لا تناظر في أمر قط إلا إذا خبرته أيما خبرة، فإن صاحب الحق قد يصوره باطلًا في أعين الناس، لا لعيبٍ في الحق وإنما للوثٍ في الواجهة التي عرض من خلالها.
وأخيرًا: احذر أن يكون مجادلك عليم اللسان وأنت عليل اللسان، فيبهر النَّاس زخرف العروس عن دمامتها، ويظنون السراب ماءًا لشدة لمعانه في أعيُنهم العطشى إلى الحقائق.
2ـ الثبات عند الهزئ ولو كثر المستهزءون:
{…إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38].
تذكر الحق الذى أنت عليه، وصواب موقفك يدفعك إلى الثبات وعدم الاهتزاز عند سماع ورؤية المستهزئين، فقد قال الله عز وجل: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]. فلو كنت تقوم بأمر أتمه، وإن كنت على حال لا تغيره، وزد أعصابك متانة وأعضائك استقامة ونظراتك قوة وحدة، وإذا تكلمت لا تتلعثم، بل فكر مليًا فقد يكون السكون أحيانًا أبلغ من كل الردود، وإن سكت لا تخنع وتكن ذليل النظرة أو منكفئ الأقتاب منحني الظهر.
ينبغي أن يصغر المتسهزئ السفيه في عينك، ويزداد حقارة بمقدار ما تزيد وقاحته، وأن تكون السخرية والسفاهة بمثابة حجر المحك تشحذ عزيمتك، وتمضى شفرتك ، فتستنفر مكنونات قوتك طبعًا لا تكلفًا، فلله عزة نفس علت بأصحابها فوق كل قزم لا يبدو عملاقًا إلا في عين من هو أقزم منه، ولله قوة قلب قال صاحبها: {…إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38]. {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29، 30]. هكذا هم المجرمون..! مشغورة أفواههم من غير سبب، فطبعهم قلة الأدب، ولو لم يخلقوا لما خُلق الغمز واللمز ولو خلقوا من غير ذلك كان العجب .
وخلق الإنسان ضعيفًا بطبعه محتاج أن يستقي قوته من غيره، فمن شده الماء والطين تقوى بالمال والبنين، ومن حلق وعلا تزود بالعلم والدين، فمن قال: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1،2]. أعطي الكوثر وكان شانئه هو الأبتر، والذى قال: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 38]. كان خيراً ممن قال: {…أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34]. ثم ندم ولات ساعة مندم، وقال: {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 42]. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} المطففين: 34].
الهزئ دومًا علامة النقص، فهو قوة تنشأ عن انفعال النفس بالحسد لمن هو أكثر كمالًا، وإلا فنافس من حسدته، ولو لم تكن كلمات (موسى) أفصح من كل خطب (فرعون) وأبين من كل حججه وسحرته وأصدق منه وآبائه وأجداده، لما نزل إلى لغة السوقة ليقول مهين ولا يكاد يبين.
درس أخير ينبغي أن تتعلمه من هود عليه السلام، لما سبوه بالسفاهة فتقول مثلما قال: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ…} [الأعراف: 67]. وإن زادوا فزد وقل معشر قريش جئتكم بالذبح.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
التعليقات