من أول مقتضيات المواجهة الفكرية مع أعداء الإسلام.. تفسير الفرق بين القول الذي يقول فيه صاحبه رأيا في الإسلام يبتغي به المعرفة.. وبين القول الذي يبتغي به صاحبه الحرب علي الإسلام، فيكون الرأي للرأي والحرب للحرب.
والحد بين الرأي والحرب له عدة شواهد:
أولها: شخص القائل؛ فقد يكون القول واحدا من مصدرين ولكنه يعتبر من أحداهما حقا ومن الآخر باطلا. مثلما كان طلب موسي وبنو إسرائيل قولا واحدا وهو طلب رؤية الله عز وجل. ولكن عندما طلب موسى -عليه السلام- رؤية الله بيَّن الله له بالتجربة أنه لا يستطيع تحمل ذلك ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [لأعراف: 143].
وعندما طلب بني إسرائيل نفس الطلب، عاقبهم الله بالموت ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُون * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 55، 56]. ومن هنا يكون من السهل تقييم صاحب أي رأي من خلال الاتجاه الذي يطرح منه الرأي مثل أن يكون علمانيا أو استشراقيا أو إلحاديا لا يتكلم إلا في اتجاه واحد بمسائل معروفة مكررة؛ محسومة مردود عليها قديما وحديثا.
الثاني: مخالفة المعهود والمعروف والمشهور من الأمور مثل قوله: أن الحج مؤتمر جنسي يحدث فيه الزنا.. رغم اشتهار العلم بأن المحرم لا يجوز له حتى أن يمس زوجته في وقت الإحرام.
وقوله: أن كلمة حج أصلها حك (التعبير الجنسي)..!!! مما يدل علي أنة بحث أصل الكلمة ولابد أن يكون قد قرأ كتب اللغة حيث قالت في مادة حج…(حجج) الحَجُّ القصدُ حَجَّ إِلينا فلانٌ أَي قَدِمَ وحَجَّه يَحُجُّه حَجًّا قصده ثم تُعُورِفَ استعماله في القصد إِلى مكة للنُّسُكِ والحجِّ إِلى البيت خاصة تقول حَجَّ يَحُجُّ حَجًّا والحجُّ قَصْدُ التَّوَجُّه إِلى البيت بالأَعمال المشروعة فرضًا وسنَّة.
وقوله: أن أصل اسم مشعر “منى” الذي يساق إليه الهدي.. هو ماء الرجل فلابد أن يكون قد قرأ كتابات اللغة في تفسير معني الاسم وفيها لسان العرب – (ج 15/ص 292).
وقوله أن اسم مشعر منى جاء من ماء الرجال ..!!! رغم إجماع علماء اللغة أن منى جاء من معني الموت
“والمَنِيَّةُ الموت لأَنه قُدِّر علينا… وبه سميت المَنِيَّةُ وهي الموت وجمعها المَنايا لأَنها مُقدَّرة بوقت مخصوص، وبه سميت مِنًى ومِنًى بمكة يصرف ولا يصرف سميت بذلك لما يُمْنَى فيها من الدماء أَي يُراق ، وقال ثعلب هو مِن قولهم مَنَى الله عليه الموت أَي قدَّره لأَن الهَدْيَ يُنحر هنالك . قال ابن شميل سمي مِنًى لأَن الكبش مُنِيَ به أَي ذُبح وقال ابن عيينة أُخذ من المَنايا”.
وقوله: أن المسلمات يمسحن الحجر الأسود بدم الحيض رغم اشتهار العلم بأن الحائض لا يجوز لها الطواف بالبيت أصلا ، كما ورد في صحيح مسلم “باب الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، عَنْ عَائشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةٍ لا نَرَى إِلا الْحَجَّ حتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: مَالَكِ أَنَفِسْتِ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ”.
ومثلما يكون التركيز علي أخطاء فردية والكلام عنها على أنها هي الدين ، مثل حادثة قتل أحد الرجال لإمرأة في الحرب بطريقة لا ترضي الله ورسوله، ويقرر الشرع الحكم بخطأها وخطأ صاحبها مع ملاحظة أن من يصل ببحثه إلى هذه الأحوال الفردية النادرة لابد أن يصل ببحثه الي وصايا رسول الله العامة المشهورة في القتال مثل حديث كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ “اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَ لاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا …” صحيح مسلم – (ج 11 / ص 445).
ومن شواهد الحرب.. استدلال المحارب بمشكل النصوص وغريب الآراء وشاذ الآثار رغم ما هو معروف ومشهور من قواعد الاستدلال في الإسلام وشرعية الحجة فيه وأن الحجة الملزمة في الإسلام هي الكتاب والسنة بفهم الصحابة والفهم السلفي لهما وأن أي إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إليه إلا رسول الله صلي الله عليه وسلم.
فهل يمكن اعتبار هذه الأقوال من جنس الرأي الذي يتطلب الرد علي القائل بالحكمة…؟
الثالث: عدم المعقولية
فإذا قال القائل قولا غير معقول ولاواقعي يكون هذا القول حربا لا رأيا. فإذا قال قائل أن “محمد” ـ صلي الله عليه وسلم ـ جامع زوجة عمه أبو طالب في القبر بعد أن ماتت علي مرآى من الناس… متجاهلا أخلاق العرب ومروئتهم وحق تربيتها له منذ طفولته وحق العمومة باعتبارها زوجة عمه وحرمة موتها؛ فهل يمكن اعتبار ذلك رأيا يتطلب الرد علي القائل بالحكمة…؟ أم حرب تقتضي مايناسبها..؟
وبصفة أساسية يكون من السهل تقييم أي رأي من خلال الاتجاه الذي يطرح منه الرأي مثل أن يكون علمانيا لايتكلم إلا في اتجاه واحد بمسائل معروفة مكررة مثل فصل الدين عن السياسة ومسائل الفتن الأولى في الخلافة الإسلامية ومسائل حرية الرأي… حيث يناقش الإسلام من خلال فترات استثنائية، فتجد الجميع يناقش فتنة علي ومعاوية بصورة متكررة تفصيلية تحليلية في الوقت التي لا يذكر فيه أحداث الفتح الإسلامي للعالم وما تضمنه من قيم ومبادئ إنسانية.
كما تطرح مثلا مسألة القتال وملك اليمين والجزية وأهل الذمة والرق والعبد الآبق… وغيرها من هذه المسائل في برنامج فضائي لا يكفي فيه الرد علي مسألة واحدة منهم بصورة لايمكن معها تبرئة هذا الأسلوب الإعلامي من تهمة التشويه والتشويش والحرب علي الإسلام. وهي مسائل محسومة والرد عليها ثابت منذ وقت ظهورها، ولكن دلالة الحرب تكون في أسلوب الإثارة الإعلامية لها حيث لا يكون وقت للرد، ليترك السامع والمشاهد وقد امتلأ عقله بشبهات بغير رد، وهو خبث إعلامي عدائي داخل في إطار الحرب علي الإسلام فلا يكون الموقف هنا هو الرأي بل الحرب.
وبعد شواهد صاحب القول المحارب تأتي الشواهد المباشرة للحرب ذاتها
وأولها: أن يكون طرف الحوار مع المسلمين هو نفسه الطرف المحارب المباشر لهم وهؤلاء الكافرون يجادلون.. ولكن وهم يحاولون قتل الرسل (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) (غافر:5) تماما مثلما يطلبون الحوار الآن مع المسلمين وهم يقتلونهم وأبنائهم ونسائهم.
ومثلما يكون الحوار تحت عنوان عام مثل “حوار الحضارات” ثم لا تثار ولاتناقش إلا القضايا الإسلامية فقط!
ومن شواهد حرب الرأي.. إثارة المصطلحات غير الموضوعية مثل مصطلح “الإرهاب” و”الأصولية” “والتطرف” وكلها مصطلحات ليس لهم ضابط حتي عند من يثيرها ولكنها مجرد الإثارة والبلبة كأسلوب من أساليب الحرب وليس غير ذلك.
ومع المصطلحات غير الموضوعية يكون التعامل غير الموضوعي مع المظاهر الإسلامية. مثل التعامل السياسي بمنع النقاب والتعامل الإعلامي بإطلاق المسميات الساخرة منه مثل الخيمة والكفن، ومثل رفض العلاج بالحجامة والعلاج بالعسل وحبة البركة رغم اعتراف أعلى المستويات العلمية بنتائج هذا العلاج.
وبذلك يمكن تقسيم التعامل مع القول والرأي إلى ثلاث أنواع:
قول لايرد عليه إلا بالعقوبة مثلما جاء في الآية قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (الأعراف).
ورأي يرد عليه مع العقوبة مثل قول اليهود (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ..) (المائدة:64).
ورأى يرد عليه بغير عقوبة مثل التساؤلات التي تنطلق من منطلق الصدق في محاولة المعرفة والتي يعبر عنها في القرآن بقول الله “ويسألونك”… ويأتي معها الجواب …”قل”… ومثل الحوار القائم علي قاعدة التسليم لله، وهذه حادثة الظهار التي أنزل الله فيها قوله سبحانه (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ).
حوار ما قبل الحكم
تقول الروايات: فجاءت إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالت: يا نبيّ الله إن أوس بن الصامت أبو ولدي، وأحبّ الناس إليّ، قد قال كلمة، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، قال: أنت عليّ كظهر أمي، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما أرَاكِ إلا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ، قالت: لا تقل ذلك يا نبيّ الله، والله ما ذكر طلاقا، فردّت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مرارا، ثم قالت: اللهمّ إني أشكو اليوم شدّة حالي ووحدتي، وما يشقّ عليّ من فراقه اللهمّ فأنزل على لسان نبيك، فلم ترم مكانها، حتى أنزل الله ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ)، إلى أن ذكر الكفارات، فدعاه النبيّ… قال: فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهؤلاء الآيات: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا).
حوار ما بعد الحكم
فكان الحكم عتق رقبة.
قالت: وأي رقبة لنا؟ والله ما يجد رقبة غيري.
قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} قالت: والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره!
قال: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} قالت: من أين؟ ما هي إلا أكلة إلي مثلها!
قال: فدعا بشطر وَسْق-ثلاثين صاعا، والوسق: ستون صاعا-فقال: “ليطعم ستين مسكينا وليراجعك”.
وللحوار بقية… ولكن في عهد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حيث مر عمر في خلافته بصاحبة الحوار مع رسول الله صلي الله عليه وسلم لنواصل حوارها مع عمر (والناس معه على حمار فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟! فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة).
امرأة تجادل رسول الله صلي الله عليه وسلم ويتحاوران والله يسمع تحاورهما وتقول لرسول الله صلي الله عليه وسلم: لا تقل ذلك يا نبيّ الله، وينزل الوحي بالحكم استجابة لشكواها، ثم تشتكي عجزها عن تطبيق الحكم وتحاور في شكواها، فيعينها رسول الله على الحكم.
وتواصل المرأة المسلمة .. مسيرة الرأي المخلص والتعبير الصادق بعد رسول الله مع عمر فتستوقفه طويلا وهو يسير بين الرجال وتعظه والناس معه لتقول له يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة.
وهكذا يكون الرأي والصلاة المكتوبة.. قيمة سياسية واحدة.
التعليقات