في بداية الأمر لم أعِر الموضوع اهتمامًا، وقلتُ أكتفي بما علق به أخي وصديقي محمد إلهامي لكن كثرة التعليقات والتساؤلات العامة التي اطّلعتُ عليها والخاصة التي وصلتني دفعتني لمشاهدة الفيلم بطريقة فاحصة متأملة ناقدة.
وكنت قبل أن أفعل ذلك كتبتُ كلامًا عامًّا حول الفيلم بناءً على ما شاهدته منه وما قرأته من تعليقات وتعقيبات عليه، وهذا هو:
- إن المقابلة بين الإلحاد وبين أشد الحركات الجهادية تطرفًا.. جريمة وأي جريمة!!
- لأن الغلو الذي أصاب الحالة الجهادية (مع نُدْرَته) هو رد فعل طبيعي للغلو الذي أصاب الحركة الإسلامية التقليدية في تبني السّلْمِيّة والانضواء تحت راية القانون الدولي واحترام النظام العالمي!!
ومهما يكن.. فإن الإلحاد وإنكار وجود الله عز وجل هو أبشع دركات الكفر، وهو مع قلة حصوله في الوجود البشري بالنسبة للانتساب إلى دين سماوي.. لم يحصل إلّا عن كِبْر أو انتكاس للفطرة، وعاقبته هي الخلود في نار تلظّىٰ لا يصلاها إلا الأشقى، وليس ثمة عذر لأحد وقع فيه، سواء كان الخطاب الديني غير المنضبط أو أفعال وتصرفات المتدينين الخاطئة، لأن أصل الدين نفسه باق وموجود متمثلًا في القرآن والسنة والسيرة النبوية المباركة، ولأن وجود الخالق أمر مرتكز في الفطرة بطبيعتها. لذلك كان السؤال الاستنكاري: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}.
أما الغلو والانحراف الذي تسرب للحركة الجهادية.. فلا يرقى لأن نعتبره كبيرة من الكبائر بسبب ما يحتف به من قرائن تجعل المتأوّل فيه معذورًا، وأبرز هذه القرائن ما يفعله الكفار بالمسلمين من انتهاكات واعتداءات بطول الأرض وعرضها.
ولذلك.. لم يقل عالم واحد فقط من علماء المسلمين بأن الحركات الجهادية حركات كفرية، أو أن أعضاءها خالدون في النار!! -مهما بلغت بشاعة تصنيفها في دائرة الغلو والتطرف-، ولو قلنا -تنزُّلًا- بأنهم وقعوا في كبائر وليسوا معذورين بتأويل أو غيره.. فإنهم في النهاية مسلمون باتفاق.
بالطبع.. هذه حسبة إسلامية، وأنا أحاكم صناع الفيلم إليها لأنهم مسلمون مؤمنون بصحة هذه الحسبة، وأرجو أن تصلهم هذه الرسالة ويعلنوا اعتذارهم عن الخطأ الذي وقعوا فيه.
وبعد التدقيق والتفحص في الفيلم.. أريد أن أضيف بعض نقاط هامة:
الأولى:
لم يحسن المحاور رد الشبهات التي طرحها الفريق المنتسب إلى الإلحاد رغم أنها كانت تحمل في طياتها تناقضًا واضحًا، كقول أحدهم: قررت أن أكون محايدًا بين ما أؤمن به ومالا أؤمن به!! إذ الإيمان ضد الشك والحياد أصلًا.
الثانية:
حالة التشابه التي أظهرها الفيلم بين (السلفية النمطية – الإخوان – عمرو خالد) هي حالة حقيقية بالنسبة لما يؤول إليه خطابهم، فالتدين الذي يدعو إليه محمد حسان وياسر برهامي والحركة التي يقودها إبراهيم منير ومحمود حسين لا يختلفان مع بعضهما إلا في بعض المظاهر الشكلية، وكلاهما يتفق مع دعوة عمرو خالد في إنشاء وتأسيس أناس فارغين عَقَدِيًّا، ومن ثَمّ فلا تصادم بينهم وبين الجاهلية التي تَبرُز حاليًا في أبشع صورها!!
الثالثة:
كلام فتاة الواحات عن السلفيين فيه حق وباطل، حيث إنهم يستعملون بالفعل مصطلحات (زنديق – كافر – خارج عن الملة)، وبما أني سلفي وعشت مدة طويلة في أحضان هذه المدرسة أقول: هم لا ينزلونها في المواطن التي زعمتها الفتاة، وهي مصطلحات صحيحة لا إشكال فيها طالما وُضِعَتْ في موضعها الصحيح. وهذا يُظهر أنها بالفعل ليست على أرض ثابتة فيما تزعمه من ادعاءات؛ وإلا ما لجأت لمثل هذا التلبيس والتدليس!!
الرابعة:
شبهة الكفر والارتداد بسبب شدة وعنف الابتلاء أجاب الله عز وجل عنها في القرآن في عدة مواضع، منها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِيْن} ونحن مكلفون بمقاومة هذا النوع من الابتلاء وليس الهروب منه أو الاستسلام له.
الخامسة:
القول بأن أحداث محمد محمود كانت خالية من تفاعل الحركة الإسلامية كذب صريح يدل على تعمد المتحدث تزوير الحقائق من أجل تسويغ الكفر الذي وصل إليه، فقد كان حازم أبو إسماعيل وقتها ملأ السمع والبصر، ورحم الله الشيخ رفاعي سرور الذي كان رغم سِنّه وحالته الصحية ملازمًا لنا في الميدان، فضلًا عن آلاف مؤلّفة من كوادر وشباب الحركة الإسلامية الذين كانوا في عمق المواجهة وقتها. مع الإقرار بأن فريقًا من الإخوان والسلفيين التقليديين رفضوا المشاركة في هذه الفعاليات، بل واتهموا المشاركين فيها بتُهَم باطلة!!
السادسة:
شبهة ترك الدين بسبب الخطاب الديني المنفر من بعض المحسوبين على العمل الدعوي (وبالفعل هناك خطاب يحوي مضامين مُنَفّرة، لكن أكثرها غير صحيحة أصلًا ونسبتها لدين الله خطأ عظيم)، لكن هذا لا يصلح مسوغًا لترك الدين والانحراف عنه، فطبيعة الجهد البشري أنه عرضة للخطأ، وفي الجملة قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}. ولو كان الأمر كذلك لما بقي أحد على معتقد من الأساس، أبدًا بسبب أخطاء المحسوبين عليه والمنتسبين إليه. وهذا لم يقل به أحد من البشر.
السابعة:
من واقع كلام المجموعة المحسوبة على الإلحاد يظهر أن مشكلتهم مع الدين نفسه وليس مع المنتسبين للحركة الإسلامية كما يحاول صناع الفيلم أن يصوروا للمشاهد، في حين ظهر من كلام المجموعة الجهادية أن مشكلتهم الأساسية مع الأنظمة الجاهلية المسيطرة على الحكم حاليًا. وهذا يدلنا على أن المجموعة الجهادية تحركت من منطلقات صحيحة، ووصلوا إلى نتيجة صحيحة، بخلاف الفريق الأول الذي اضطربت منطلقاته فانحرفت مآلاته!!
الثامنة
تردد على لسان الإخوة المجاهدين جمل تأسيسية مهمة لابد من التركيز عليها (تعالوا نرد العدو الصائل أولًا، اللي بيغتصب النساء وبيهتك الأعراض وبياخد الأراضي، وبعد ما نرد العدو نبقى نختلف) (إما تصالحوا النظام أو تقاتلوا النظام) بصراحة.. هؤلاء الأخوة لخصوا حاجات كتير قوي بالكلمتين دول!!
التاسعة:
حرص المحاور على تسمية الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام ب(العمل المسلح) سقطة عنيفة من شخص يُفترض أنه من أبناء الحركة الإسلامية، أضف إلى ذلك أنه تقمص شخصية مَن يحاول إثناء الإخوة المجاهدين عن هذا الطريق، بالضبط كما حاول بشكل باهت مع أصحاب التوجه الإلحادي. وقد أجبت عنه في المقدمة بما فيه الكفاية.
العاشرة
تركت المقدمة التي كتبتها أوّلًا كما هي لأنها مهمة في التأصيل لكل ما قلته بعدها، فأرجو من حضرتك أن تعيد قراءتها مرة أخرى، علمًا بأن الفيلم تم تصويره مع شباب من تيار جهادي محترم وليس كما ظننتُ في البداية أنه صُوِّر مع شباب منتسب لتنظيم الدولة (داعش).
ولو قصد صناع الفيلم عمل دعاية جيدة للفكرة الجهادية، فلن يصنعوا أكثر مما صنعوه في هذا الفيلم!!
والله من وراء القصد.
التعليقات