{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}
“واللغة العربية من الناحية العلمية تفوق أضخم اللغات ثروةً وأصواتًا، ولقد كتب جول فيرن الروائي المشهور قصة خيالية عن قوم شقّوا في أعماق الأرض طريقًا إلى جوفها، فلما خرجوا سجّلوا أسماءهم باللغة العربية، فلما سُئِل عن ذلك قال: أعتقد أنها لغة المستقبل. ويقول أرنست رينان: إن من أعجب ما وقع في تاريخ البشر وصَعُب حَلُّ سِرِّه.. انتشار اللغة العربية، لقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء، فَبَدَتْ فجأة في غاية الكمال، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ يومها ذلك أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة” انظر كتاب “منهج الإسلام في بناء العقيدة والشخصية” للأستاذ أنور الجندي رحمه الله.
وفي المقابل.. يقول الدكتور الطاهر لبيب: “يجب ان ننظر إلى موت اللغة العربية كاحتمال حقيقي وارد، فاللغة التي لا يتكلمها أهلها تموت” ورغم التناقض الشديد بين ما ذكره الأستاذ الجندي وما قاله الدكتور لبيب، إلا أنني أحاول الجمع بينهما، فأقول: إن اللغة العربية تحمل في نفسها عوامل البقاء كما تحمل عوامل الانتشار، لكن أهلها الذين لا يقدرونها قدرها هم الذين يفقدون شرف حملها والانتساب إليها، وفي الوقت الذي يبدو فيه للناظرين بُعد العرب شيئا فشيئا عن لغتهم العظيمة، نرى إقبالا شديدا على تعلمها والاهتمام بها من غير العرب، وهذا من شأنه أن يستفز العرب مرة أخرى ويستنفر هممهم للعودة إلى لغتهم ورفع شأنها -ولو من باب المنافسة-، ولا يخفى على أحد أن التعاطي مع القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لا يؤتي أُكُلَه من الفهم والتدبر إلا لمن عنده القدر الكافي من علوم اللغة العربية.
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
هذا الموضوع ثري وغني لدرجة كبيرة، ومن الممكن تناوله من جهة مناهج التربية والتعليم أو وضع مدرسي اللغة العربية في المدارس، أو الأعمال الفنية التي تعرضت للغة العربية سلبا أو إيجابا، أو أفلام الكرتون أو نشرات الأخبار، أو غير ذلك كثير، لكني آثرت أن أذكر هنا بعض القصص والوقائع التي أدلل بها على وجود حالة الصراع والتناقض هذه، وأنه كما ابتعدت الشعوب العربية كثيرا عن اللغة وأصولها وقواعدها -بل وعن التكلم بها- فإن عوامل أخرى مقابلة من شأنها أن تعيد للغة العربية مكانتها التي تستحقها.
1- أول مرة صعدت المنبر للخطابة كانت في عام 1999م، وبدأت بعدها أخطب في مساجد متفرقة، فكنت أحفظ بعض خطب المشاهير وأرددها كما هي، ثم بعد أقل من سنة أصبحت إمام أحد مساجد المحلة الكبرى وصرت أخطب فيه بشكل مستمر، وهنا بدأت أُعِدُّ الخطب وأحضِّرها بنفسي، وحال الخطبة لا ألتفت إلا لترتيب الآيات والأحاديث موضع الاستشهاد وقوة الصوت، دون أي اعتبار لتأثير صحة اللغة من عدمها على الحاضرين، حتى جاءني مرة بعد الصلاة رجل مهذب يبدو أنه في الأربعينيات، وقال لي: يا شيخ مصطفى.. خطبتك جميلة جدا، لكن ينقصها الضبط اللغوي حتى تزداد جمالا. فشكرتُه على حسن أسلوبه، وسألته: كيف اكتشفت هذا الأمر؟ فأخبرني أنه مدرس لغة عربية. فدفعني ذلك لسؤال آخر: هل ترى كل المصلين بالمسجد قد انتبهوا لوجود أخطاء لغوية؟ قال: لا، اطمئن.
ومن وقتها بدأتُ أجِدُّ وأجتهد في تعلم اللغة العربية، فذهبت لصديق لي مهتم باللغة كي يعلمني كيف أضبط لساني بأسرع وقت ممكن، وعند تحضير الخطبة كنت أراجع بعض الجُمَلِ القرآنية الشبيهة بالجملة التي أكتبها وأقيس عليها، وذهبت لمدرس مشهور باسم أبو البراء، عرفت أنه لا يتكلم في حياته إلا بالفصحى، كما تعرفت على الأستاذ العظيم الدكتور/ محمد عبد المعطي وطلبت منه أن أدرس على يديه، فوافق مشكورا. ووصل بي الحال أن جاءني أحد المصلِّين بعد صلاة الجمعة يعرفني بنفسه، وكان هو الأستاذ عبد العظيم حماد رئيس تحرير صحيفة الأهرام المصرية، وقال لي: أنا أعرف أنك شيخ سلفي، وكثير من آرائك لا تعجبني، لكني أصلي الجمعة هنا بسبب استقامة لسانك لغويًّا. ثم قال: أنت أحيانا تخطئ، لكنك تعيد الجملة وتتدارك الخطأ، بل حكى لي أنه أحيانًا كان يجرّب مساجد أخرى كي يهرب مني، لكنه يرجع إليَّ مضطرًّا.
2- ذات مرة كنت عند أبي البراء، ووقت الظهر ذهبنا وصلينا في مسجد كان بجواره مقهى شعبي، ثم بعدما خرجنا من المسجد فوجئت بالأستاذ قد وقف أمام المقهى يعظ في الجالسين على تركهم الصلاة وانشغالهم بما هم عليه، وحال تركيزهم الشديد مع كلماته القوية، صار يضرب بيده ألعاب الطاولة والدومينو التي أمامهم، وهو يصرخ فيهم: أَلِهذا خُلِقتم؟! كنت أتأمل وجوه الجالسين وأنا أنتظر أن يقوموا ويضربونا، لكني لاحظت أن جمال وبهاء اللغة التي يتكلم بها الأستاذ قد شغلهم وشد أنظارهم وكأنه يقرأ عليهم القرآن، لدرجة تجعلني أتوقع أنهم تركونا ننصرف سالمين فقط لهذا السبب؛ فسبحان من ربط بين القرآن واللغة العربية حتى في نفوس الجهلة والغافلين!
3- مرة أخرى كنت عنده في غرفة الدرس، وفجأة قال لي: لا تتحرك من هنا مهما حصل، وخرج وأغلق الغرفة فانشغلت بكتابة بعض الفوائد من على السبورة، ثم فوجئت بالأصوات تتعالى في الخارج، وبعد التأمل عرفت أن الأستاذ في موقعة ساخنة مع زوجته، لكنها -والحمد لله- لم تصل لرفع الأيدي، وبعد حوالي عشر دقائق دخل الأستاذ، فسألني: هل سمعتَ ما حصل؟ قلت: طبعا سمعت. قال: وماذا فعلتَ وقتها؟ فقلت له ممازحًا: هذه أول مرة أسمع معركة باللغة الفصحى، فكنت أُدَوِّن فوائد وفرائد قد لا تتكرر على مسامعي. ثم استدركت سائلا: يا أستاذ، كان هناك صوت صغير بينكما يتكلم أيضًا بالفصحى، من هذا؟ فقال: هذا ولدي البراء، عمره عشر سنوات، فسألته: وهل علمته قواعد النحو والصرف؟ قال: لا، هو تعلم بمفرده لأنه لا يسمع في البيت إلا اللغة العربية.
4- في أولى زياراتنا للشيخ التركي المشهور نور الدين يلدز فوجئت بأن مكتبته الخاصة -ما شاء الله- كبيرة وكلها باللغة العربية، ثم حكى لنا عن والده الشيخ حلمي وكيف كان يحفظ أبناءه من تعلم الحروف اللاتينية، فقال: كان والدي يشتري طلبات السوق من الفاكهة والخضر ونحوه، وكانت توضع حينئذ في أوراق الجرائد التي تحولت إلى الحروف اللاتينية، فكان الشيخ حلمي قد عَوَّد زوجته أن تضع الوعاء الكبير أمام الباب، فيفرغ فيه ما جلبه من السوق، ثم يأخذ في تقطيع وتمزيق أوراق الجرائد إلى قطع صغيرة جدا؛ السر في ذلك أنه أراد ألا تقع أعين أبنائه على الحروف اللاتينية قبل أن يتشربوا القرآن الكريم والحروف العربية. وقال الشيخ نور الدين معقبا: العربية عندنا ليست مجرد لغة، إنها الدين كله، وهذه الحقيقة يفهمها الأتراك جيدا، فالعلمانيون لا يحاربون العربية لكونها لغة بل لأنها الدين، والمتدينون يحافظون عليها ويتعلمونها لا لكونها لغة بل لأنها الدين.
5- في دروس تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وبعد دراسة ربع المستوى الأول، طلبتُ من الدارسين في الواجب المنزلي أن يُرَكِّبوا بعض جُمَل من القواعد والمفردات التي تعلموها، فلفت نظري أن إحدى الطالبات كتبت في كراستها: (سأتكلم بهذه اللغة قريبًا – أشتاق يوما أكتب وأتحدث بهذه اللغة – العزم غالب على كل صعوبة) ولم ألتفت إلى كونهم لم يدرسوا هذه الكلمات أصلا، إنما شدني وأثّر في نفسي هذه المعاني التي دفعتها للبحث عن ترجمة لها كي تكتبها بالعربية.
وفي هذا السياق تحضرني قصص ومواقف كثيرة لا يتسع المقال لذكرها، لكني أود التأكيد على معنى هام، وهو: إذا كان عامة المثقفين العرب قد أهملوا اللغة العربية تَحَدُّثًا وفي بعض الأحيان كتابةً، وصاروا يتباهون بانطلاق ألسنتهم باللغات الأجنبية.. فإن غيرهم سيقوم مقامهم ويرفعون الراية بدلا منهم، وكما أن أشهر كتب الحديث وأصحَّها كانت لعالِمَين من غير العرب (البخاري ومسلم)، بل إن كثيرين ممن أسهموا في بناء صرح قواعد اللغة العربية وعلومها لم يكونوا من العرب، وأشهرهم: سيبويه إمام النُّحاة ومؤلف الكتاب، وابن فارس صاحب معجم مقاييس اللغة، والجرجاني الذي وضع أسرار البلاغة. وغيرهم كثير، لذلك أعيد جملة الدكتور الطاهر لبيب مع تعديل جوهري: اللغة العربية إذا لم يتكلم بها أهلها.. أخرج الله لها أقواما من غير أهلها ليحملوا لواءها ويعلوا شأنها. كما هي سنَّة الله تعالى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.
والله من وراء القصد
التعليقات