روى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر”. وقد ذُكِر هذا الحديث في تفسير قوله تعالى “ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا”. وقد ذكر العلماء مَعْنَيَين في المقصود بالوراثة هنا، فقيل “العلماء ورثة الأنبياء في وجوب تبليغ الدين ونشره حتى يظهر على جميع الأديان”. وقيل “الإنصات للعلماء والتوقير لهم لازم للمتعلمين، لأن العلماء ورثة الأنبياء”. وهناك من جعل الأُولى سببَ وجود الثانية، فقال “يجب توقير العلماء والإنصات لهم لأنهم الذين يحيون سُنَّتَه عليه الصلاة والسلام ويقومون بشريعته”، فلا توقير ولا إنصات بغير إحياء السنن والقيام بالشريعة. انظر شرح صحيح البخاري لابن بطال.
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فعلى من يريد أن يكون من ورثة الأنبياء حقا وصدقا أن يلتزم بهذه الآية، إذ يبلغ ما أُنْزِلَ من الله عز وجل كاملا غير منقوص، وإلا صار كعلماء بني إسرائيل الذين يجعلون آيات الله قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا. ومِن أكملِ وأتمِّ الآيات في هذ المعنى، قوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
فالأنبياء في حياتهم يحكمون الناس بكتاب الله سبحانه، وبعد وفاتهم تقع الأمانة على عاتق ورثتهم -الربانيين والأحبار- فَهُمْ حفظة الدين وحملة لواء الشريعة بعد الأنبياء. ولأن الأمر لن يكون سهلا، ولأن القائم بهذا سيتعرض لمخاطر وتهديدات، قال سبحانه: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} كناية عن أن الذين يكرهون أحكام الله هم أصحاب السَّطْوَةِ والجَاهِ -السلاطين والحكام- فلا تخشوا بطشَهم وقوَّتَهم، ولا تشتروا مغرياتهم وأموالهم بآيات الله وشريعته. كما حذّر سبحانه من ترك شيء قليل من أحكام الشرع إرضاء للرافضين لها والمعرضين عنها، فقال عز وجل {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، وبلهجة أشد فيها تهديد ووعيد، قال العزيز الحميد {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}.
انظر رعاك الله إلى هذا الشيء القليل الذي حذَّر منه ربُّنا تبارك وتعالى نبيَّه ورسولَه المصطفى، عليه الصلاة والسلام، فهل تراه متحققا اليوم في من يزعمون وراثة الأنبياء؟ هل فُتِنوا عن بعض ما أنزل الله إليهم؟ هل ركنوا إلى الطواغيت ووافقوا أهواءهم في مسائل (الحكم بغير ما أنزل الله -الولاء والبراء- الجهاد في سبيل الله)؟ هل صدق فيهم قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}؟ وهل يتنزل عليهم قوله جل وعلا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}؟
وفي تفسير الآية السابقة ذكر شيخ المفسرين الطبري عددا من الآثار التي تدل على أنها نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا علمهم بنبوة محمد، عليه الصلاة والسلام، ثم قال: وهذه الآية، وإن كانت نزلت في خاصٍّ من الناس، فإنها معنيٌّ بها كل كاتمٍ علمًا فرضَ الله تعالى بيانه للناس، وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال “من سُئل عَن علم يَعلمهُ فكتمه، ألجِمَ يوم القيامة بلجام من نار” اهـ. وقال صاحب المنار إن العبرة في الآية هي أن حكمها عام وإن كان سببها خاصًّا، فكل من يكتم آيات الله وهدايته للناس فهو مستحق لهذه اللعنة. اهـ. وها هي بعض مواقف لمن شهدت لهم الدنيا بالعلم والإمامة في الدين:
1- أبو حنيفة النعمان: رفض رئاسة القضاء في عهد أبي جعفر المنصور وعُذِّب من أجل ذلك، وكان رده على المنصور بما معناه لا يصلح للقضاء إلا رجل يكون له نَفْس يحكم بها عليك وعلى ولدك وقُوَّادك.
2- مالك بن أنس: حاول المنصور منعه من ذكر حديث يحفظه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام لما يحمل من معانٍ تمثل خطرا على سلطانه، فما استجاب رغم تعرضه للضرب والإهانة، وأبى كتم العلم.
3- سفيان الثوري: كان كلما طلب منه المنصور أن يرفع إليه حاجته يُذَكِّره بظلمه وجوره والبذخ الذي يعيش فيه من أموال المسلمين، واستمرت مواقفه مع المهدي حتى عاش مطارَدًا، فلما سُئل عن ذلك، قال العالِم طبيب الدين، والدرهم داء الدين، فإذا اجتر الطبيب الداء إليه، متى يداوي غيره؟!
4- أحمد بن حنبل: سُجِن عدة سنوات، وجُلِد أكثر من ألف جلدة، ومُنِع من التدريس، وتناوب على ظلمه ثلاثة من خلفاء العباسيين (المأمون، المعتصم، الواثق) فما أجابهم لطلبهم المخالف لكتاب الله وسنة رسوله.
5- محمد بن إسماعيل البخاري: رفض الاستجابة لخالد الذهلي، أمير خراسان، عندما طلب منه أن يحضر إلى بيته من أجل تعليم أبنائه الحديث، وأصر أن يحضروا هم إلى بيته مثل بقية الطلاب، فنفاه من بلدته حتى مات في المنفى.
أكتفي بهذه الأمثلة، فالمقام لا يتسع للاستقصاء، ومن أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى كتابَيْ “الإسلام بين العلماء والحكام” لعبد العزيز البدري و”العلماء وأمانة الكلمة” لمحمد سرور. لكني ألفت الانتباه هنا إلى أن مواقف هؤلاء العلماء التي تعرضوا بسببها لهذا الأذى كانت مع حكام يقيمون شرع الله في الجملة ويعادون أعداء الله ويرسلون الجيوش الإسلامية لمحاربتهم، فكيف ينبغي أن يكون العلماء مع حكام يحاربون دين الله وشريعته ويوالون أعداء الأمة ويعطلون الجهاد في سبيل الله؟
بقي أن أشير إلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعيش كآحاد الناس، يجوع مثلهم ويحمل الحجارة معهم -ينام على الحصير ويجلس على الأرض- كان في مهنة أهله، يخيط ثوبه ويصلح نعله بيده.. إلى غير ذلك من البعد عن مظاهر الترف والرفاهية التي يبحث عنها ويحرص عليها بعض حَمَلَة العلم في عصرنا الحالي، حتى إن امرأة يوما كلَّمَتْه -عليه الصلاة والسلام- بأسلوب غير لائق، فلما عاتبها الصحابة وقالوا لها كيف تكلمين رسول الله هكذا؟! قالت إنني لم أعرفه، واعتذَرَتْ بأنه لم يكن معه حارس ولا بوَّاب. فما بال المنتسبين إلى العلم والدعوة يبحثون عن الجاه والمكانة عند الناس، بل يتنافسون على إرضاء الحكام والسلاطين، بدلا من تنافسهم على أداء الأمانة وتبليغ الرسالة، التي هي ميراث الأنبياء بحق، مهما أصابهم في سبيل ذلك من ضيق وكدر في العيش؟!
نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص والصدق في أقوالنا وأعمالنا.
التعليقات