لم تكن العقيدة يومًا علمًا جافًّا جامدًا كما يصورها بعض المنتسبين إلى السلفية حاليًا، بل كانت علما مؤثرا في سلوك المسلم وتصرفاته، بحيث لا يحرك ساكنا ولا يسكن متحركا إلا بتأثير عقيدة الإيمان والتوحيد على ذلك، ومن أكثر المواطن تأثرا بالعقيدة.. هو موضع الجهاد في سبيل الله، حيث إزهاق الأرواح وبذل الأنفس فضلا عن الأموال والثمرات، من أجل شيء واحد فقط “رضا الله والجنة”. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
وقد ثبت أن رجلا من الأعراب، جاء إلى رسول الله فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بعضَ أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غَنِمَ رسولُ الله فيها شيئًا، فقسَّم، وقسَم له، فلما وصله نصيبه، ذهب به إلى رسول الله، وقال: ما هذا؟! قال عليه الصلاة والسلام: نصيبك، قسمته لك. قال: ما على هذا تبعتك، ولكن اتبعتك على أن أُرْمَى إلى هَاهُنَا -وأشار إلى حَلْقِهِ- بسهم فأموت، فأدخل الجنة. فقال: إن تَصْدُق الله يَصْدُقكَ، فلبثوا قليلا، ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتِيَ به النبي -صلى الله عليه وسلم- يُحمَل، قد أصابه سهم حيث أشار، فقال صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدقَ اللهَ فَصَدَقَهُ الله.
أعلم يقينا أن مصطلح الجهاد أصبح مستفزا لهؤلاء المنتسبين إلى السلفية بقدر استفزازه لطواغيت الحكم في بلادنا، حيث صارت هناك حالة من التناغم والتلاقي الروحي بينهم وبين هؤلاء الذين يسمونهم أولياء أمور!! لذلك آثرت هنا أن أربط بين الجهاد والعقيدة التي يزعم هؤلاء أنهم حريصون عليها، كما آثرت أن تكون الأمثلة من الصدر الأول، حيث لا خلاف على مكانتهم وعلو منزلتهم، فضلا عن حب المسلمين لهم، وحرصهم على اتباعهم والتشبه بهم.
عن أنس بن مالك قَالَ: لما دنا المشركون يوم بدر، نادى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في المسلمين أن قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ. فقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بَخٍ بَخٍ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلاَّ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ جِرَابِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْر، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.
كان عمرو بن الجموح أعرجَ القدم، وبسبب ذلك لم يخرج يوم بدر، فلما كان يوم أُحُد استأذن بنيه في الخروج، فقالوا: قد رخص لك رسول الله، ونحن نقوم مقامك. فَقَالَ لِبَنِيهِ: أَخْرِجُونِي، هَيْهَاتَ، مَنَعْتُمُونِي الْجَنَّةَ بِبَدْرٍ وَتَمْنَعُونِيهَا بِأُحُدٍ؟ فَخَرَجَ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ, قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ الْيَوْمَ أَطَّأُ بِعَرَجَتِي هَذِهِ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: “نَعَمْ” قَالَ: فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَطَأَنَّ بِهَا الْجَنَّةَ الْيَوْمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ, فَقَالَ لِغُلَامٍ لَهُ كَانَ مَعَهُ يُقَالُ لَهُ سُلَيْمٌ: ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ. قَالَ: وَمَا عَلَيْكَ أَنْ أُصِيبَ الْيَوْمَ خَيْرًا مَعَكَ؟ قَالَ: فَتَقَدَّمْ إِذًا. فَتَقَدَّمَ الْعَبْدُ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ وَقَاتَلَ هُوَ حَتَّى قُتِلَ.
غاب أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: “يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ”، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قَالَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ، -يَعْنِي المُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ”، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: “يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ”، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ قَالَ أَنَسٌ: “كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}.
عبد الله بن رواحة
أَمَّرَ رَسُولُ اللهِ -صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ- فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، ثم قال: “إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ” وكان من قدر الله أن استشهد الثلاثة، لكن أكثر من ورد عنه كلمات مؤثرة في تلك الغزوة قبل استشهاده كان عبد الله بن رواحة، فقد قال قبل أن يخرجوا إلى مؤتة: «يا وَيْحَ نفسي ما جَنَيتُ لها إن لم أشد شدة تنجيني من النار»، ولما بلغهم أن هرقل قد نزل بمأرب في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة، أقاموا بمعان يومين، فقالوا: نبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بكثرة عدونا، فإما أن يمدنا، وإما أن يأمرنا أمرا، فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: «يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون (الشهادة)، وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فإن يظهرنا الله به فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهي الشهادة وليست بِشَرِّ المَنْزلَيْن»، فقال الناس: والله لقد صدق ابن رواحة، فانشمر الناس وهم ثلاثة آلاف في مواجهة مائتي ألف.
فلما التقوا أخذ زيد بن حارثة الراية، فقاتل حتى قتل، ثم أخذها جعفر بن أبي طالب وأتي بالفرس الذي كان عليها زيد بن حارثة، فقال له رجل: تعلم أنها الفرس التي قتل عليها الرجل، فلما استوى عليها قال: أيها القوم إني مبتغ لنفسي فابتغوا لأنفسكم، فقاتل حتى قتل، ثم أتي بها عبد الله بن رواحة، فلما ركبها حاد حيدة فقال:
أقسمتُ يا نفس لَتَنْزِلِنَّهْ *** كَارِهَةً أو لَتُطَاوِعِنَّهْ *** مالي أرَاكِ تَكْرَهِينَ الجنَّةْ؟!
قال سعيد: ثم نزل فألجأ ظهره إلى جدار فأصيبت إصبع من أصابعه فقال:
هل أنتَ إلا إصبع دَميتَ *** وفي سبيل الله ما لَقيتَ
يا نفس لابد من أجل موقوت *** يا نفس إن لم تُقْتَلِي تَموتِي
ثم قاتل حتى قتل
قال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: بينما أنا واقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وشمالي فإذا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أَضْلَعِ (أقوى) منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟! قال: أُخْبِرتُ أنه كان يشتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده (جَسَدِي جَسَدَه) حتى يموت الأعجل منا. قال عبد الرحمن: فغمزني الآخر فقال مثلها، فلم ألبث أن نظرت إلى أبي جهل في الناس فقلت: ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبراه، فقال: أيكما قتله فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. قال: هل مسحتما سيفكما؟ قالا: لا، فنظر في سيفيهما فقال: كِلاكُما قتله.
وكما أن هناك من ينفي بلسان الحال هذا الارتباط بين العقيدة والجهاد.. فهناك أيضا من يزعمون الجهاد دون أخذ الأسباب والسعي لامتلاك الأدوات!! وهؤلاء تكلمت عنهم كثيرا في مقالاتي السابقة، لكني هنا أذكرهم بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وأنصحهم بالتخلي عن شعارات السلمية، والسعي وراء مجلس الأمن والمحاكم الدولية، فإن النظام العالمي لا يعرف إلا لغة القوة وبسط النفوذ والسيطرة.
وأهديهم هذه الكلمات من أنشودة بِدَمِي أُسَطِّرُ قِصَّتِي وَجِهَادِي
بدمي أسطرُ قصتي وجهادي *** ودليلُ صدقي عُدتي وعتادي
رشاشيَ المِهدارُ يروي باسمًا *** للناكصينَ حكايةَ الأمجادِ
روحي على كفي وأحملُ مدفعي *** ويطيبُ لي حينَ الوغى إنشادي
حيث أن شعار (الموت في سبيل الله أسمى أمانينا) لم يمنعه من حمل عدته وعتاده، وأنه يروي قصته برشاشه قبل قلمه ولسانه، وأنَّ حمل روحه على كفه لم يَحُلْ بينه وبين حمل المدفع.
أنا مبدأي أن الهوانَ لغيرنا *** والعزُ لي ولأمتي وبلادي
لا أستسيغُ الذلَ أو أَرِدُ الرَّدى *** فالموتُ في زمنِ الهوان مرادي
يا أمةُ الإسلام قومي واثأري *** كُفِّي عن الإذعانِ والإخلادِ
لن يُرجعَ البلدَ السليبةَ مطربٌ *** بالطبلِ والمزمارِ والأعوادِ
أنا لن أجيبَ على الكلام وإنما *** سيجيبكم عند اللقاء جهادي
طلقاتُ رشاشي بليلٍ دامسٍ *** أحلى من البسماتِ في الأعيادِ
وتَوَسُّدِي لِقَنَابِلِي في خَنْدَقِي *** أحلى وأشهى من لذيذِ رقادي
وغُبارُ خَيلِ الله في أَنْفِي تَفُوقُ *** الوردَ والريحانَ بل والكادي
وأسيرُ نحو الموت معتجل الخطى *** كمسيرِ أهل الحب للميعادِ
فهذه الكلمات تحمل معاني الاستعلاء بالدين مع استنفار الهمم والطاقات، إضافة لحسن التوكل على الله مع بذل الأسباب كاملة دون انتظار معجزات السماء.
والله من وراء القصد.
التعليقات