“وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه: كان بمنزلة مقدم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأَخْيِذة، وبمنزلة القوّاد الذي يأخذ ما يأخذه؛ ليجمع بين اثنين على فاحشة، وكان حاله شبيها بحال عجوز السوء امرأة لوط، التي كانت تدل الفجار على ضيفه، … فعذب الله عجوز السوء القوّادة بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث، وهذا لأن هذا جميعه أخْذُ مال للإعانة على الإثم والعدوان، وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية. فإذا كان الوالي يُمَكّن من المنكر بمال يأخذه، كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصّبته ليعينك على عدوك، فأعان عدوك عليك. وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد به في سبيل الله، فقاتل به المسلمين” (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية – ابن تيمية).
في الوقت الذي يوصف به كل صادع بالحق من العلماء في زمن بأنه (ابن تيمية عصره)، نُفاجأ بأن من يزعمون السلفية واتّباعَ ابن تيمية هم أنصار السلطة وسدنة الحكم، بداية من ربيع المدخلي مرورا بأسامة القوصي ومحمد سعيد رسلان وصولا إلى ياسر برهامي!!
منذ عشرين سنة صدمني غلاف مجلة روزاليوسف بعنوان “ابن تيمية مطلوب حيًّا أو ميِّتًا”، وقد دفعتني الصدمة لدخول مكتبة إسلامية وشراء كتاب عن هذا الرجل الخطير جدا، وزاد هول الصدمة عندما عرفت أنه مات منذ حوالي سبعة قرون، وبعد قراءتي عنه بدأت أقرأ له، وكلما قرأت كلما زال أثر الصدمة من نفسي، فحكامنا حريصون على قطع نسل الرجل الذي يهدد عروشهم بمواقفه قبل كتاباته.
ليس قصدي هنا شخص ابن تيمية رحمه الله على قدر ما أريد التذكير بصورة العالم الرباني الذي لا تمنعه هيبة السلطان من القيام لله بحقه، فهو سعيد بن جبير والعز بن عبد السلام وسيد قطب وأمثالهم من العلماء المجاهدين، كما ليس قصدي كذلك شخص السيسي المستولي على الحكم في مصر، إنما أقصد كل طاغية تولى أمور المسلمين فحارب الشعب وسخّر مقدراته لخدمة أعداء الإسلام، فهو مبارك والقذافي وبشار وغيرهم من الخونة والعملاء.
ولعل السبب في هذا التمثيل هو حالة التشابه الكبيرة بين حال المسلمين في عصر ابن تيمية وحالنا الآن، حيث عاش ابن تيمية في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن الهجري (661هـ / 1263م : 728هـ / 1328م)، وهي فترة ما بعد سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية 656هـ وقبل توسع دولة عثمان الناشئة 699هـ والتي عُرِفت بعد ذلك باسم الخلافة العثمانية، فقد كانت الهجمة المغولية من الشرق والهجمة الصليبية من الغرب، والمسلمون يعانون من خيانات الداخل وعلماء السوء الذين يأمرونهم بتسليم مفاتيح بلدانهم للأعداء.
وفي الوقت الذي يوصف به كل صادع بالحق من العلماء في زمن بأنه (ابن تيمية عصره)، نُفاجأ بأن من يزعمون السلفية واتّباعَ ابن تيمية هم أنصار السلطة وسدنة الحكم، بداية من ربيع المدخلي مرورا بأسامة القوصي ومحمد سعيد رسلان وصولا إلى ياسر برهامي!!
بَيْدَ أن كلام ابن تيمية المنقول عاليه سيظل شوكة في حلوق الأفاكين المفترين، فهو بعدما قام بتوصيف الظالمين من الحكام بأوصاف مثل (مقدم الحرامية) وهو يساوي عندنا وصف زعيم العصابة، (الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة) أي: الذي يشارك قطاع الطرق في سرقاتهم ونهباتهم، ثم بوصف (القوّاد) وهو يساوي عندنا هشتاجا دشنه الشباب بعفوية على السيسي منذ حوالي ثلاث سنوات، لكنه لم يكتفِ بذلك وقام بتوضيح الأمر أكثر، حيث أسقط شرعية أمثال هؤلاء لأنهم أتوا بعكس المقصود من الولاية أصلا، وحيث إن كل النصوص التي وردت في شأن عدم الخروج على الحكام إنما تهدف لمقاصد معلومة، فإن إتيان الحكام بعكس هذه المقاصد يسقط العلة والحكمة من وجودهم ومن ثَمّ فلا احترام ولا قدسية لهم.
إن غياب أمثال ابن تيمية وابن عبد السلام في زمان السيسي وبشار ليس بالأمر الهين، وخطره لن يكون محصورا في عدد من القتلى والمعتقلين، إن الخطر الأكبر الآن هو أن تكفر الأجيال الصاعدة بعلماء الدين قاطبة.
ثم يأتي بعد ذلك من يستدعي نصوص الصبر على حكام الجور التي اختلف العلماء في صلاحية تنزيلها على حكام بني أمية وبني العباس، ليقطعوا بصحة تنزيلها على طواغيت اليوم ممن يزعمون الإسلام بألسنتهم ويحاربونه بأفعالهم!! “سبحانك هذا بهتان عظيم”.
لم يكن دور ابن تيمية قاصرا على العلم والبيان، بل قام بتحريض المجاهدين على مواجهة التتار رغم أنهم قد أعلنوا إسلامهم، ودَعَمَهم في صمودهم دفاعا عن قلعة دمشق، (ولم يقف على الحياد حقنا للدماء) بل شارك بنفسه في موقعة شقحب جنوب دمشق 702هـ بجوار المماليك، ورُويَ أنه شارك أيضًا في معركة فتح عَكّا، لكن اللافت أنه كان يضرب مع المماليك بسيفه في نفس الوقت الذي ينكر عليهم ظلمَهم وجَورَهم وينتقد فيهم بلسانه وقلمه، حتى أنهم سجنوه خمس مرات إلى أن مات حبيسا في سجن القلعة بدمشق بعدما حرموه من كتبه وأوراقه.
حاولت كثيرا أن أتصور المشايخ (أبو إسحاق الحويني، مصطفى العدوي، محمد حسان، محمد حسين يعقوب) وغيرهم من الدعاة وطلبة العلم بما لهم من مكانة وحظوة عند عامة المسلمين، وهم يبادرون بنصرة الرئيس المحترم الدكتور محمد مرسي، أو وهم يقفون على منصة رابعة العدوية يقولون للمعتصمين نحن معكم نحورنا دون نحوركم، ويصححون أخطاء الاعتصام ويضبطون أداء القادة والمتحدثين السياسيين، لكن.. حضر السيسي وغاب ابن تيمية، فانتصر التتار واستفقْتُ على مشاهد الدماء والأشلاء والجثث المحروقة التي تبحث عن قائد رباني يجمع الأمة وينهض بها من جديد.
سألت نفسي كثيرا: لماذا يمنع العلماءُ أتباعَهم من المطالبة بحقوقهم الشرعية والإنسانية؟ -خشية الفتنة زعموا- أليست الفتنةُ قائمةً والدينُ مُغَيّبًا ومحارَبا؟! غاظني جدا شيخ سوري مناصر للثورة على قناة الجزيرة عندما سُئِل: لماذا يسكت أغلب علماء دمشق خصوصا وسوريا عموما عن جرائم بشار ضد شعبه؟ فأجاب: لأنهم قد فتحوا معاهد علمية ودعوية تنفع المسلمين ويخافون أن تُغلق. فتذكرت على الفور سعيد بن جبير رحمه الله، وكيف حفظ الله علْمَه وفتاواه لنتعلم منها بعد مئات السنين، في الوقت الذي نلعن فيه قاتِلَه الحجاج بن يوسف الثقفي، في مشهد تكرر منذ زمن قريب بين سيد قطب الذي أعلى الله ذكرَه وحفظ علمَه وعبد الناصر الذي أخزاه الله.
إن غياب أمثال ابن تيمية وابن عبد السلام في زمان السيسي وبشار ليس بالأمر الهين، وخطره لن يكون محصورا في عدد من القتلى والمعتقلين، إن الخطر الأكبر الآن هو أن تكفر الأجيال الصاعدة بعلماء الدين قاطبة، وأن يصرخ الشباب بأعلى صوت لهم: اشنقوا آخر حاكم ظالم بأمعاء آخر شيخ وداعية!! أو أن يجد الشاب نفسه مخيرا فقط بين الدعشنة والعلمنة وليس ثمة خيار ثالث!! لذا.. وجب على العلماء أن ينتبهوا، فليس هناك تعارض بين العلم والجهاد ولا بين الدعوة والنضال، فابن تيمية الذي يتشدق الجميع بحبه والانتساب له، هو الذي كتب في العقيدة والفقه والتفسير – وهو الذي كتب في السياسة والمنطق والتاريخ – وهو الذي جاهد بقلمه ولسانه ويده.
التعليقات