في تطبيقات الألعاب الإلكترونية (جيمز games) تتعلم فكرة المستويات أو الترقي، فيبدأ اللاعب بالمستوى الأول الأكثر سهولة ثم الثاني الأصعب، فإذا وصل إلى المستوى الثالث دلّ ذلك على أنه لاعب متميز، حتى لو عجز عن تخطيه، لأنه يكون أصعب مستوى وتكون بعده الجائزة.
في الحروب كذلك يتم التعامل من القوى العظمى بنفس الطريقة تقريبا، وهي أن يختبروا الجيش الجديد بإدخاله لعبة المستويات حتى يتمكنوا من تحديد قدراته وإمكاناته بشكل دقيق.
في سوريا عموما وفي حلب خصوصا تم دخول المجاهدين الجدد أصحاب الخبرات الضعيفة والإمكانات المحدودة فضلا عن العدد القليل في معركة غير متكافئة مع الجيش السوري النظامي، فانتصروا عليه، فجاءتهم القوى الإقليمية الكبرى (إيران) بخبرات حرسها الثوري مصحوبة بقوات من ذراعها القوي (حزب الله اللبناني) مدعومة بميليشيات شيعية عراقية وأفغانية، وكل هذا لم يفلح في تحقيق أي انتصار يُذكر على مجاهدي حلب الأبطال.
فكان لابد من تدخل القوى العظمى بشكل مباشر، فأعلنت روسيا في 30 سبتمبر 2015 تدخلها لإنقاذ الجيش السوري في حلب، وهذا لا يكون بالطبع إلا بضوء أخضر أمريكي، بل إن التدخل الأمريكي نفسه ضد المجاهدين ظاهر لكل ذي عينين، لكن بطريقة مختلفة عن طريقة الروس، وكان هذا الإعلان في الحقيقة هو إعلان لانتصار مجاهدي حلب المدعومين من شعب مسكين يعاني الفقر والدمار على مدار خمسة أعوام، هؤلاء المجاهدون ممنوعون بقرار دولي من حيازة مضادات الدروع فضلا عن مضادات الطائرات.
ورغم الحصار والفُرقة والإنهاك ونقص الإمكانات وصعوبة الإمدادات الذي تعاني منهم حلب بأهلها ومجاهديها.. إلا أن أمريكا وروسيا وإيران مع القوات النظامية السورية والميليشيات الحاقدة الطائفية لم يجدوها لقمة سائغة سهلة الهضم، بل وجدوها غصة في حلوقهم كادت تذيقهم مجتمعين مرارة الهزيمة والاندحار وألبستهم مرتين لباس الذل والعار بكسر شوكتهم وفك الحصار.
دعوني أقول: لو أن كل أهل حلب مجتمعين قد خرجوا من هذه المعركة المجرمة الآثمة شهداء أو أسرى لما كانوا مقصرين أو منهزمين، فقد سقطت عام 67 جيوش عبد الناصر وحافظ الأسد أمام الجيش الصهيوني في ساعات معدودة، فكيف والحال إلى الآن أن كثيرا منهم صامدون ثابتون، وأعداؤهم يناشدونهم أن يخرجوا آمنين بأسلحتهم الخفيفة؟!
وتأبى حلب إلا أن تبعث برسالة قوية للمنهزمين والمنبطحين أمام المجتمع الدولي الفاجر والنظام العالمي الغادر والخائفين من الخروج على أنظمتهم العميلة الخائنة فحواها: النصر ممكن لكل من استعان بالله ونال شرف المحاولة.
إي والله.. فإنهم الآن لا ينتصرون علينا بأكثر من نشرهم روح الهزيمة في نفوسنا، ولأن أغلب القادة للأسف قد عاشوا الذل والضعف والهوان حتى تمكن منهم وأصبح جزءًا من تركيبتهم لا يستطيعون التخلص منها!
إن معركة حلب قد دارت وحدها في وقت كان ينبغي أن تدور فيه معارك دمشق والقاهرة وبغداد وبيروت وصنعاء وتونس والجزائر والرباط من أجل التحرر والاستقلال، لكن أبت هذه العواصم إلا أن تترك حلب وحدها، ورغم ذلك صمدت كل هذه السنوات، فكيف لو شاركتها أخواتها؟ بلا شك كانت ستصمد أكثر، بل كان من الممكن أن تنتصر وينتصروا جميعا حيث تتشتت جهود الأعداء وتتفرق قوتهم بعد توزيعها على هذه البلدان.
إن أعظم ما أَستشعرُه من ثمار معركة حلب هو تأثيرها في الجيل الصاعد الذي رآها تتخطى المستويات الأولى وتصمد ببسالة أمام المستوى الأخير الصعب جدا، هذا الجيل سيفهم أكثر معنى الأخذ بالأسباب المتاحة مع حسن التوكل على الله، وستكون جرأته أكبر من جرأة اليوم على قوى الشر والإجرام التي كادت أن تقول للمسلمين: أنا ربكم الأعلى!! هذا الجيل سيعلم يقينا أن سبب تأخر النصر هو رفض قيادته الحالية دخول المعركة وليس العجز عنها.
سيفهمون قوله تعالى: “ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين”، سيعرفون أن الوعود القرآنية بالنصر والتمكين ليست مجرد نصوص تتلى وتردد على المنابر وفي المجالس لرفع المعنويات، بل هي حقائق ومسلمات لمن أخذها بحقها وحملها بمحمل الجد لا الهزل، سيثقون بقرب صدعهم “جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا”.
سيتعلمون فقه الجهاد وأحكامه وأنه فرض على هذه الأمة كما في قوله تعالى “كُتِبَ عليكم القتال وهو كُرْهٌ لكم”، ويستظهرون معنى قوله صلى الله عليه وسلم “ما ترك قومٌ الجهادَ إلا ذلوا” وقوله “إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُم” وسيتحول الجهاد الإسلامي من مجرد فكر تتبناه جماعة أو حركة، ليصبح حالة وثقافة عامة في نفوس أبناء هذه الأمة.
لست أزعم ولا أدعي أننا قد تحولنا من حالة الهزيمة الكاملة إلى حالة النصر المظفر، ولكننا تحولنا من حالة الاستسلام والانهزام إلى حالة المدافعة والمقاومة، وهي حالة قد تطول وتستغرق بعض الوقت لكن المهم ألا نعود إلى الوراء مهما كانت التضحيات، وفي هذه المرحلة قد عرفنا الواقع والمتاح ومن ثم المطلوب والواجب، وأعظم ذلك من وجهة نظري هو لزوم التكامل والتنسيق بين الجهود الدعوية والسياسية والعسكرية، وأن كلا منها لا يمكنه تحقيق النصر بمفرده.
فالجنود والعساكر أصحاب المعركة المسلحة هم الطليعة الفدائية للأمة، ومن خلفهم الساسة الذين يرشدون العمليات العسكرية ويضبطون إيقاعها حسب الممكن والمتاح لكنهم لا يوقفونها أو يعطلونها، وكذلك الدعاة وأهل العلم يستنهضون الشباب ويعلون الهمم ويستنفرون الطاقات حتى يتوالى الدعم بكل صوره وأشكاله للمجاهدين، وحتى تتتابع الأجيال في كل المعارك ويعرف العدو أن كل شهيد يذهب يخلفه ألف جندي جديد، وأن دماء الشهداء لا تذهب هدرا بل تستنفر من ينتصر لها ويأتيها بحقها.
هنا أقول وبملئ فِيَّ: إن معركة حلب ليست هزيمة ولا انكسارا والفضل لله وحده ثم لأهلها ومجاهديها الأبطال الذين حققوا فيها العديد من الانتصارات والتي بإذن الله تكون شعلة تضيء لمن بعدهم حتى تستمر المعركة لتتحرر حلب كاملة ثم حماة وحمص ودرعا ودمشق وسائر ربوع الشام الحبيبة، وتكون منطلقا لتحرير بقية بلادنا العربية والإسلامية، “ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا”
التعليقات