تفكرتُ مليا في سر الاختيار الإلهي للعرب لحمل الرسالة الخاتمة، أو لكونهم المخاطَب الأول بهذه الرسالة، وفي الحقيقة فإن الأسباب الداعية لذلك متعددة ومعقدة ومتداخلة، وبعضها قد يكون محل اتفاق، وبعضها قد يختلف الآخرون معي فيها.
فأول ما يلفتنا هو النظر إلى الزمان، وهو ما ينقلنا بدوره إلى المكان، أما الزمان فهو ما اصطُلِح على تسميته بالعصور الوسطى، والتي تميزت بأنها قرون ذلة وقهر للشعوب، فقد تغذت أغلب شعوب تلك الحقبة على ألبان العبودية والقهر والخنوع للحكام والسادة، وهو ما أدى إلى حدوث حالة من الأُلفة بين الشعوب وحالة القهر المستشرية في تلك الحقبة، غير أن بقعة واحدة من العالم تميز بني جنسها باحتفاظهم – في الغالب – بأَنَفة وعِزَّة طبيعية، وكانت تلك البقعة هي جزيرة العرب.
ويبدو أن التربية الشرعية كانت تهدف إلى تهذيب هذه الصفة في العربي المسلم، وتوجيهها، وضبط غلوها عنده، فجاءت الآيات والآثار للتخفيف من حدة الغلو في هذه الصفة، وتهذيبها حتى لا يتأثر المجتمع الوليد..
إذًا فقد كان من أسباب الاختيار الصفة الشخصية للعربي، من أَنَفة ورفض للخضوع والذلة، حتى يستطيع حمل مشعل الرسالة للعالم، فمن اعتاد الذل والقهر يصعب عليه أن يقود تغييرا جذريا في المجتمع المحلي، فضلا عن تغيير وجه العالم، ولهذا نجد دائما أن الطغاة في كل زمان ومكان يحاولون استئناس الشعوب جيلا بعد جيل بوضعهم دائما تحت ضغط الذل والقهر، وذلك لضمان خضوعهم واستسلامهم الطَبْعي.
ويبدو أن التربية الشرعية كانت تهدف إلى تهذيب هذه الصفة في العربي المسلم، وتوجيهها، وضبط غلوها عنده، فجاءت الآيات والآثار للتخفيف من حدة الغلو في هذه الصفة، وتهذيبها حتى لا يتأثر المجتمع الوليد، وحتى لا يتفتت بفعل هذه الأَنَفة، فقال تعالى “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”[النساء: 59]، وقال صلى الله عليه وسلم “اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة”(رواه البخاري)، وغيرها.
وعلى هذا فإذا افتقدت المجتمعات أو الجماهير المخاطَبة لهذه الصفة – الأَنَفة – وظهر فيها نوع من الذِّلة والخضوع والاستسلام للطغاة والسادة فالواجب على أصحاب التقعيد السياسي الشرعي العمل على وضع قواعد السياسة الشرعية المناسبة للمجتمعات المحلية، التي تهدف إلى تحرير الأفراد من التبعية والانبطاح، وذلك كخطوة أولى للتأهيل لحمل الرسالة وإبلاغها للعالم، فضلا عن قيام المربين والدعاة ببث روح الأَنَفة بين أبناء المجتمع المسلم، ومحاولة إصلاح ما تهدم في الأفراد الذين طال عليهم الأمد تحت ضغط الذلة والخنوع فألفوه وتعايشوا معه، على الأقل للوصول إلى تحييدهم عن أن يكونوا خنجرا في صدور الشباب المسلم الأبي أو ظهوره، فأي نجاح إذا وصلنا إلى نقل من اعتاد الذِّلة إلى المنطقة الرمادية، لينطلق أصحاب القلوب البيضاء النقية ليبددوا ظلمة السواد وحلاكه؟!
التعليقات