أليس هذا عجيبًا؟!
حين ذكر الله تعالى أهل الجنة قال “رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ” [التوبة: 100]: أما رضوانه عليهم فهو أعظم وأشمل ما أعطاهم “وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ” [التوبة: 72] فَـ به زال كل مرغوب وحصل كل محبوب، به أدخلهم جنة الآخرة بعد جنة الدنيا، وكشف لهم الحجاب عن وجهه فكانت سعادتهم بالنظر إليه في الآخرة فوق سعادتهم بالقرب منه في الدنيا “لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ” [يونس: 26] وكانت الحسنى هي الجنة، وكانت الزيادة هي النظر إلى وجه ربنا سبحانه.
لكن العجب كل العجب من قوله “وَرَضُوا عَنْهُ” [البينة: 8] حيث قرن رضاه برضاهم في إشارة؛ للعلاقة بينهما من جهة، وفي إشارة للعلاقة بينه -عز وجل- وبين المؤمنين من جهة أخرى؛ فما أعجب هذا!
وما أعجب أن يكون رضا المؤمن عن ربه من كمال الإيمان الذي يرضاه الله من المؤمن.. فلماذا رضيت أيها المؤمن عن الله؟
ضاعف اليسرى مع عسره
فالحياة الدنيا التي قامت على معنى الابتلاء لن تخلو من أصل يشق عليّ، لكن ربي الله الذي يرحم ضعفي ويحب الخير لي لم يجعل العسر مثل اليسر فضلًا عن أن يكون أكثر منه، بل جعل اليسر أكثر ولابد “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً” [الشرح: 5، 6] ولأني رأيت العسر لا ينفرد بي بل لابد أن يهبني الله معه يسرًا أكثر فكيف أذكر العسر ولا أذكر اليسر، وهو يسرٌ يأتيني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب؛ من الولي بل ومن العدو، يسرٌ على الروح، ويسرٌ على العقل، ويسرٌ على البدن، يسرٌ يأتي في الحال ويسرٌ يأتي في المآل.
فهل يمكن بعد شهودي لكثرة اليسر المصاحب لعسري ألا أرضى عن الله؟
بلطفه يدبر الأقدار لي
فما أقصر نظر الإنسان، وما أنقص علمه، وما أشد طمعه وعجلته، إنه يغرق في اللحظة الراهنة ويتوهم أن الحياة ستدوم هكذا، ويحزن على فوات ما يتمنى فيها، ويتوهم أن أمنيته كانت ستحقق له السعادة المرجوة والنجاح المأمول والسلامة المحبوبة. لكنه الله اللطيف الذي يسوق الخير إليّ وإلى عباده بأخفى سبب، فكم صرف عني ما أتمنى وكان فيما تمنيت الشر لي، وكم قدَّر عليّ ما يؤلمني وكان فيما آلمني أسباب نجاتي وفوزي وسعادتي، وكم اختار في حياتي أشياء فيحول بيني وبينها ويختار لي غيرها ثم يكون الخير فيما اختار لي.
وكم رأيت في حياتي من الدلائل الناقصة “إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ” [يوسف: 100] فهل يمكن بعد شهودي للطف ربي في تدبيره لي بقدره ألا أرضى عن الله؟
أمره ونهيه رحمة لضعفي
مع أن النفس تضيق بالتكاليف وتهوى التفلت منها، تستثقل بعض الأوامر وتتعلق ببعض المحرمات، تتوهم النفس أن راحتها في ترك طاعة، وأن سعادتها في ارتكاب حرام، مع أن النفس بنقصها وضعفها وجهلها قد تتصف بما ذكرناه إلا أن الحقيقة تصدمها.
والحقيقة أن الراحة والسعادة لا تنال بتلكم الأوهام، بل على العكس لا يزيدها التفلت والانحراف إلا ضيقًا وهمًّا يحبس الروح في الدنيا قبل الآخرة “وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا” [طه: 124].
وأجد في الأوامر والنواهي تكميل نقصي وعلاج ضعفي وحمايتي من جهلي “يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا” [النساء: 28].. فهل يمكن بعد شهودي لرحمته بضعفي في أمره ونهيه ألا أرضى عن الله؟
لرأفته يقبل ناقص عملي
فأعمالي الصالحة مهما كانت؛ هي ناقصة بنقصي، كم فيها من غفلة وشرود ذهن، وكم فيها من شواغل دنيا تزاحم، وكم فيها من نقص في الخشوع والخضوع. فلو ردَّه الله عليَّ بالعيب لكان هذا من العدل ولم يكن من الظلم، فهذه الملائكة تتعبَّد لله فقد “أَطَّتِ السَّماءُ، وحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ واضِعٌ جَبْهَتَهُ ساجِدًا لله تَعَالي” [سنن الترمذي: 2312].
بل “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا” [الإسراء: 44] فما أنقص أعمالي مقارنة بأعمال كل هؤلاء، لكن الله برأفته يقبل مني عملي على نقصه وعيبه ولا يضيعه عليّ “فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه” [الزلزلة: 7] ليس لحسن عملي وجماله؛ ولكن لكرم ربي وكماله.
لهذا جعله الله مقتضى صفاته حين عرَّفنا كيف يعاملنا فقال “وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ” [البقرة: 143] .. فهل يمكن بعد معرفتي بهذه الرأفة في قبول عملي على نقصه ألا أرضى عن الله؟
يقبل جهادي ويكفر سيئاتي
فأنا العبد الخطَّاء لا أَسْلَم من الذنوب بالكلية، فربما تركت ذنبًا؛ لكنني وقعت في آخر، وربما تبت من ذنبٍ؛ لكنني لم أصمد أمام الفتنة فعدت ووقعت في نفس الذنب مرةً أخرى مع صدقي في توبتي الأولي.
وربما تُبت عن ذنوبي الظاهرة؛ ثم اكتشفت أنَّ لي ذنوبًا باطنة لم أكن منتبهًا لها ولخطرها عليّ.
لذلك لا يقوم إيماني إلا على هذه المجاهدة لنفسي وللناس سعيًا لتحقيق الإيمان والمحافظة عليه وبناءه، هي مجاهدة أصيب فيها وأُصاب، وأنجح وأفشل، بل وأنشط لها أحيانًا وأفتر عنها في أحيانٍ أخرى، والله خالقي يقبل جهادي لنفسي على ما فيه من النقص، لهذا غفر لقاتل المائة بحرصه وسيره وقربه من أرض الطاعة بشبر؛ مع أنه لم يصل إليها، ويكفر عني سيئاتي التي لا أَسْلَم منها لضعفي “إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا” [النساء: 31] وبالمجاهدة “إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ” [هود: 114] وبالتوبة “إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا”. [الفرقان:70، 71].
فهل يمكن بعد علمي بهذه المعاملة منه لي ألا أرضى عن الله؟
يُعينني ويُدافع عني ويَكفيني
فأنا ككل إنسان فقري ذاتي ملازم لوجودي البشري، “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ” [فاطر: 15] والله يُعينني ويَسد حاجاتي، بل يحب مني أن أستعين به ليعينني. قال الله -عز وجل-: “يا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي! إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ” [صحيح مسلم: 2577] ويغضب إن قصَّرت في الاستعانة به، “مَن لم يسألِ اللهَ يغضبْ علَيهِ” [صحيح الترمذي: 3373].
وأنا ككل إنسان ليَ أعداء في هذه الحياة من الإنس والجن والحيوان، وأنا وحدي لا أقدر على دفعهم عن نفسي؛ إلا أن يدافع الله عني “إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا” [الحج: 38] بقوته القاهرة وعزته الغالبة، وأنا ككل إنسان تكثر حاجاتي ولا أملك جلب الخير الذى أحتاج تحصيله لنفسي ولمن أقوم عليهم، كما لا أملك دفع الضر الذي أحتاج أن أحفظ عنه لنفسي ولمن أقوم عليهم، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله وليس للعبد إلا مولاه “أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ” [الزمر: 36].. بلى فإنَّ حسبَك الله.
فكم أعانني الله وكم دافع عني وكفاني.. أليس بعد كل ذلك الفضل ألا أرضى عن الله؟
يسترني في الدنيا والآخرة
إنَّ وجاهة الإنسان وكرامته وشرفه تساوي الكثير، بل إنها أغلى من سلامة الأبدان والأموال عند أصحاب النفوس العالية والأرواح الراقية، ومن هنا تميز الكائن الإنساني مع وجود النقائص في حياته بستر تلك النقائص؛ حرصًا على ما يمكن من الكمال والجمال. وأنا إنسان لا أخلو من عيوب ولا أسلم من ذنوب؛ لكنني بكمال الإيمان الذي أحبه وأحرص عليه أجاهد نفسي وأستر عيبي وذنبي حفظًا لكرامتي بين الخلق، وصدق من قال: “لولا ستر الله علينا ما جَمُل بعضنا أمام بعض” والله سبحانه حييٌ ستير يحب الحياء ويحب الستر، فكم سترني في الدنيا تفضلًا وإحسانًا، ووعدني أن يدنيني في كنفه يوم القيامة فيقررني بذنوبي، ثم يقول لي: “لا بأس عليك إنك في ستري لا يطلع على ذنوبك غيري، اذهب فقد غفرتها لك” [ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/405)] .
فهل يمكن بعد كل هذا الستر الموجود والموعود ألا أرضى عن الله؟
لكرمه يجازيني بأحسن عملي
فأعمالي الصالحة متفاوتة، وأنا بين اجتهاد في حال وتقصير في حال، بل إنني كل ما تأملت حديث الثلاثة الذين حُبسوا في الغار فدعا كل واحد منهم ربه بأخلص عمل بينه وبينه؛ حتى كان كل واحد منهم يقول: “اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ” [صحيح البخاري: 2272].
كلما تأملته وتساءلت بيني وبين نفسي: هل لو كنت معهم؛ هل كنت سأجد عمل أجرؤ أن أدعو الله به هكذا كما فعلوا؟! أم إنني سأواجه نفسي وقتها بالحقيقة أني لو قلبت أعمالي وفحصتها لعز فيها ما أرجو لي مثل رجاءهم! بل إنني لو أحسنت الظن بعمل من أعمالي فكيف بباقي عملي وكيف بباقي عمري؟ وعلى أي عملٍ يا تُرى سأموت وألقى ربي؟!
وعلم ربي بضعفي وبتساؤلاتي؛ فأنزل وعده الكريم للمؤمنين أن “وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ” [الزمر: 35].
فهل يمكن بعد هذا الإحسان والكرم ألا أرضى عن الله؟
يحبني ويكشف الحجاب عن وجهه
فهو سبحانه الذي أخبر عن علاقته بالمؤمنين بأنه “يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ” [المائدة: 54] بل قدم محبته في الذكر على محبتهم تفضلًا وتوددًا “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا” [مريم: 96].
فإِذَا أحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحْبِبْهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي جِبْرِيلُ في أهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ.. [صحيح البخاري: 3209] فإعلائي لمحبة الله في قلبي على كل محبة سواها هو حقيقة إيماني، فإن الذين آمنوا أشد حبا لله، وهذه المحبة الإيمانية علاقة خاصة بين المؤمن وربه، فمهما أخذ المؤمن من نعيم الجنة من قصورها وحورها وطعامها وشرابها وثيابها؛ فإنه حين يكشف ربنا الحجاب عن وجهه تنسيه سعادة النظر إلى وجهه كل سعادة أخرى بباقي النعم في الجنة، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى وجهه، كما كان هو -تبارك وتعالى- أحب إليهم من كل أحدٍ ومن كل شيء.
فهل يمكن بعد أن أحبني ووعدني قربًا ورؤية لوجهه الكريم ألا أرضى عن الله؟
فهل رضيت؟
أخي المؤمن أختي المؤمنة…
تأمل في معاملات الله لك تدبر في وحيه الذي أنزله إليك، وانظر في تفاصيل أقداره معك؛ إنك لن تجد أحدًا يعاملك مثل معاملته تعالى لك على نقصك وضعفك وتقصيرك وخطأك.
فكيف تعامله أنت؟
هل أرضيت الله ورضيت عنه؟
كرر السؤال على نفسك، وابحث عن تفاصيله في حياتك؛ فإنك ستجد من أسباب الرضى عن الله أكثر مما ذكرت لك هنا، فاسعد بالرضا عن الله، وعِش في رحابه مادمت في الدنيا حتى تلقى الله وأنت من أهل الرضا.
التعليقات