نم يا عمر .. فاليوم عيد

عمر هو نموذج يُحاكي كل من أسمع عنهم من شهداء رابعة ..

كلما قرأت أو سمعت عن أخ من شهداء رابعة وثناء الناس عليه .. أقول سبحان الله.. هذا عمر ..

عرفت عمر وهو في السابعة من عمره ولداً هادئا قليل الكلام دائم الابتسامة .. مهذبا ومطيعا وجسورا مقداما ..

وعلى مدار ما يزيد عن ست عشر عاما لم أره مرة يسيء لأحد أو يشتكي منه أحد .. زميل أو تلميذ أو أستاذ ..

حزن جارف هو الحزن الذي يفيض من كتابات كل من يعرف عمر لسبب واحد أن عطاء عمر للجميع كان جارفا ..

كان يساعد والده في عمله ، ووالدته في العمل الخيري ، وإخوانه في العمل الدعوي بالمساجد ، والجمعيات الخيرية في توزيع وتوفير ما يحتاجوه ، وشباب الجامعة في طباعة دعايتهم وإعدادها، والأخوة في الجبهة السلفية وحملة الشيخ حازم في لصق وتوزيع الدعاية، والأخوة في المظاهرات في توفير الميكرفونات ووسائل الانتقال وحمايتها، ولا مانع مع ذلك أن يقود السيارة لإخونه الدعاة في مشاوريهم أو مساعدتهم في حاجاتهم ، مع تدريب وتربية جيل من المنشدين والدعاة الصغار.. وغير ذلك مما لم أذكره..

هذا البذل الجارف والعمل الدؤوب والعون المستمر كان يبذله وهو يرى نفسه أقل من الجميع ، لم أرفيه يوما تصنع للتواضع أو النظر إلى عمله ، وكانت فيه صفة النسيان وعدم التركيز في التفاصيل ، فكان كل ما يشغله هو الاعتذار الشديد عنهما وعن أي تقصير من جهته ، لم أشعر يوما أنه يجاهد نفسه ليتواضع ، فهو لا يشعر بأفضلية على أحد ..

وبخلاف ذلك لم أره يوما يتضجر من طلبات الناس أو زيادة الحمل أو تقصير الناس وتحميلهم عليه ، لا أذكر أن أحدا طلب منه طلبا أو دعاه لعمل دعوي فاعتذر، أو رد عليه بما يضايقه ..

كان أغلب من في عمره يفكر في تحسين أحواله الدنيوية والتجارة بينما كان يفكر في توفير ما تحتاجه الدعوة وكيف يفرغ أكبر وقت ويقدم أكثر جهد لها.. وكان يعتبرها زوجته وحياته وروحه..

وكان قليل الكلام حي الخلق ، لا ينتبه له الناس ولا يحب أن ينتبهوا إليه ، ذكرت إحدى الأخوات صفة مميزة له أنه وقتما تولى العمل الإداري في معهد معلمي القرآن كان دائم غض البصر عن الأخوات ..

وفوق ذلك كان صافي النفس شديد التقبل لكلام الناس ، لم يحمل في نفسه على أحد إخوانه أو يقاطع أحد منهم أو يخاصمه ، ومهما حدث تجده سريع الصفح والنسيان ..

أذكر أني حدثته بعد تخرجه من كلية الدعوة لماذا لا يهتم بالتعيين في الإمامة والخطابة؟ ، فكان يقول أنه يرى الدعوة في تربية النشأ ومتابعة الشباب ولا يرى نفسه مناسبا لدورالإمام والخطيب ، وذلك لأنه رحمه الله لم يكن فيه حب التصدر أو التمشيخ ـ والله حسيبه ـ ، كان سهلا بين الناس بشوشا طلقا بين الناس .. فكان يرى نفسه ـ رحمه الله ـ وسطهم لا فوقهم ..

وكان مع ذلك قويا في الحق كثير الدعاء بطلب الشهادة ، فكان من أول من نزلوا في مظاهرات كاميليا شحاتة و25 يناير وكان له مواقف قوية من الفلول وداعمي الفساد في منطقته ..

وكان من أول من نزلوا إلى محمد محمود منذ أول أيامه، وظل معتصما هناك ، وكثيرا ما كنت أنتزعه انتزاعا من وسط الضرب وهو يأبى إلا أن يكون في الصفوف الأولى .. وكانت الوصية الأساسية لأي أخ مع عمر أن يمسك جماحه عن إلقاء نفسه وسط النيران ..

وفي اعتصام رابعة حضر كل المشاهد .. كان في مذبحة الحرس الجمهوري قريبا من هناك وساعد في نقل الجرحى .. وفي مذبحة المنصة كان في الصفوف الأولى وأصيب بطلق ناري في ذراعه ، وتحدثت عن ذلك ، ثم في الفض استشهد رحمه الله ..

ولن أضيف جديدا إذا ذكرت خدمته لإخوانه في رابعة وقيامه على رعايتهم ، وحب الناس له وحمله الأعباء عنهم ..

في يومه الأخير بيننا .. بدأ القنص وكنا عند جهة طيبة مول وفجأة اختفى من جواري .. ظللت أبحث وأنادي عليه لندخل قرب المنصة .. ثم وجدته وهو يضحك لعلمه أني أريد منه أن يتراجع بينما يريد أن يزوغ من جواري حتى لا أمنعه .. وما هي إلا دقائق واختفى بالفعل من جواري .. وظللت طوال اليوم وقد وقع في قلبي أني لن أراه ثانية .. بحثت عنه .. اتصلت به .. سألت عليه .. وأخيرا شاهدته شهيدا ـ كما نحسبه ـ …

استشهد رحمه الله مقبلا غير مدبر .. ثابتا غير متردد .. صائما في الأيام البيض من شوال ..

هكذا أرى في عمر كل شهيد من شهداء رابعة .. كانوا يرون أنفسهم أقل من الآخرين .. أحبوا أن يبذلو أرواحهم ظنا منهم أنها أهون من أرواح الآخرين ..

هذا ما أعرفه عن عمر والله حسيبه ، ولعله بذلك سبق من بيننا بينما نحن مكبلون بأصفاد رؤية النفس والتعلق بالزيف والضن بالبذل ..

لقد رأى كثير ممن أعرف صدقهم عمر بعد استشهاده في الفردوس الأعلى مع السابقين مع أناس من رابعة ومن غيرها ، فقلت في نفسي لعل ذلك بهذا الصفاء وإنكار النفس وحسن الخلق ، وتذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم “أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً

يكفي ذلك الفراغ الهائل الذي تركه عمر في نفوس الجميع لنعرف القيمة الكبيرة لهذا البطل والتي كانت خافية في حياته ولكن الجميع شعر بها بعد استشهاده ..

هذا هو من سماه أباه “عمر الفاروق” وهو لا يدري أن الله قد قدر له الشهادة .. ليكن له من اسمه نصيبا..

نم يا قرة العين .. ويا حبيب الفؤاد .. ويا خلة الروح .. هنيئا مرتاح البال ، واترك في النفوس لوعة .. وفي العيون دمعة .. وفي الفؤاد حنينا للقياك .. فلعلك لا تعلم كم أحببناك .. وكم اشتقنا للقياك .. وكم بكيناك..

نم قرير العين يا نفسا سوية صافية عزيزة كريمة عاشت بيننا حينا من الزمن فأحبها كل من عرفها ..

نم هانيء البال يا عُمري العزم مقدام الوغى ثابت الجنبات عزيز النفس ..

نم يا جميل الخصال .. يا عمر الفاروق.. فاليوم عيد يا عمر..

ولكن عزاؤنا أنك ارتقيت مع كرام أشراف من كل صوب ، وأنكم أحييتم في قلوب العالم أجمع معاني الحرية والبذل والتضحية .. وأننا كلما التمسنا أحدهم وجدناه خيارُ من خيار .. فهنيئا لك فقد أحسنت الرفقة يا عمر

عزاؤنا أنك فزت بأشرف الميتتين وخير الخاتمتين ..

عزاؤنا هذه الرؤى الصالحة والميتة الشريفة والأثر الصالح المتجدد الذي بقي في الأرض ..

عزاؤنا ما عرفناه عنك من خير وصلاح .. نحسبك والله حسيبك .. وما تركته من أجيال تعلمت منك العطاء والبذل لدين الله وقد ملأت ذكراك قلوبهم وتعاهدوا أن يعيشوا على نهجها ..

عزاؤنا ما أنزله الله على فؤاد والديك من صبر ويقين نسأل الله أن يجعله ذخرا لهم في الآخرة..

عزاؤنا أن الأمة اليوم تقدم في كل صقع أشرافا كراما .. شهداءً لوجه الله المنان ..

فاللهم تقبل شهداءنا وشههداء المسلمين وفرج عن أسارى المسلمين وداوي جرحاهم وثبت أقدمنا وانصرنا على القوم الظالمين ..

اللهم انتقم ممن سفك هذه الدماء الزكية ومن استحلها ومن أعان عليها ومن فوض لسفكها ..

اللهم أئذن بنصر من عندك قريب وثبتنا على الحق حتى نلقاك واستعملنا في نصرة شريعتك وإقامة دينك على الوجه الذي يرضيك عنا..

أخوك المحب في الله/سعد فياض
فجر عيد الأضحى المبارك لعام 1434 هـ


التعليقات