من جوانب الإعجاز القرآني تلك المعاني والعلاقات الخفيّة بين آياته سواءً في السورة الواحدة منه أو بين السور بعضها مع بعض، فلم تكن هذه العلاقات واضحةً، ولم تأتِ متتابعةً مرتَّبةً كما تُكتَب المقالات اليوم، بل جاءت خفيّة مبثوثة منثورة وعميقة، لم يزل البشر يستنبطونها يومًا بعد يوم على مر الدهور وكر العصور.ويعمّق هذا المشهد روعةً وإعجازًا أنّ القرآن نزّل مُنجَّمًا حسب الحوادث، وعلى مدار زمانٍ ممتدٍّ، ورغم ذلك فهو يبدو كجملةٍ واحدةٍ في نسقٍ مُحكَمٍ وموضوعٍ متلاصقٍ وإبداعٍ خفي يستحيل معه أن يكون شتاتًا متفرِّقًا جُمِع باحترافيةٍ عاليةٍ من دون جانب الإعجاز فيه، خاصةً أن من تلا هذا القرآن أميٌّ لم يعكف على الكتب تصنيفًا وتنسيقًا، ولم يُعرَف عنه ذلك.
ومن هذه المعاني والعلاقات الخفية ما يقوم على أساسها علمٌ كاملٌ عظيم، وهو علم المناسبة الذي يبحث مطالع السور وخواتيمها، وتناسب الكلمات مع موضوع السورة العام، وكذا علاقة الأسماء الحسنى مع موضوع السور…
إنّ من يريد أن يؤلّف كتابًا من نصوصٍ متفرقة بحيث يكون رصين البناء متلاصق الموضوع ثم يحمل مع ذلك معانٍ خفيّة، ويمتلأ بالأسرار العميقة والكثيرة والمتنوعة والمبثوثة في كل جوانبه، بحيث لا يخلو من هذه المعاني والأسرار لفظ، كما لا يؤثر وجود هذه المعاني الخفية على السياق العام والموضوع الظاهر ومن غير تكلّفٍ ولا إقحام ولا اعتساف، من قصد ذلك يلزمه أن يعكف عليه عمره، ثم لن يستطيع أن يخرجه بهذا الإحكام والإبداع والإبهار؛ بحيث لا ينضب معينه من جديدٍ يبديه، ولا يتوقف يومًا ما عن الكشف عن أسراره وكنوزه وخباياه.
ومن هذه المعاني والعلاقات الخفية ما يقوم على أساسها علمٌ كاملٌ عظيم، وهو علم المناسبة الذي يبحث مطالع السور وخواتيمها، وتناسب الكلمات مع موضوع السورة العام، وكذا علاقة الأسماء الحسنى مع موضوع السور، كما يدرس تنوع عرض القصص وتوجيهها مع المقصد من السور، وكذلك تكامل المعاني في السورة الواحدة، وتكامل المعاني في السور المتعاقبة، وتكامل المعاني في القرآن كلّه، والتفاوت في أسلوب العرض للقصص أو الكلمات المنتقاة بتفاوت المقصد والموضوع، والتناسق بين الرؤية الكليّة والمعالجة الجزئية لموضوعات السور، ثم التلازمات والفوارق بين المتشابه، إلى آخره.
إن كان الجيل الأول من أتباع الرسالة قد تلقّى القرآن علمًا وعملًا، فإنّه قد حاز المعاني الأساسية والأصول الرئيسة والمقصود البيّن الذي أراده الله أن يصل بيّنًا لكل الناس، وما ينبني عليه جُل وأساس أعمال المكلّفين.
وكذا المتابع لأحداث الدهر ووقائع الزمان وترتيب الأقدار في دنيا الناس يلمس من لطف التقدير وحكمة التدبير وتداخل التأثير الشيء العجيب الذي ظاهره التشابك والتعقيد وحقيقته الإحكام في لطفٍ والعدل في يُسرٍ..
أمّا دقائق العلوم ولطيف المعاني والتي تُظهر الإعجاز من جهة وتخاطب اللاوعي وتتخطى اللامحسوس، ويُستنبط منها إشاراتٌ عميقة، فإنّها إن تبدّى بعضٌ منها لهذا الجيل الأول الذي هو خير الأجيال علمًا وعملًا إلّا أنّه لم يحط بكثيرٍ منها إدراكًا ومعرفة. وما زالت تتكشف يومًا بعد يومًا لأجيالٍ وراء أجيال تستخرج من دقائق العلوم ولطائف المعاني الدُّرر من بحر علمٍ لا ملكوت يسعه ولا أفق يحدُّه.
إنّ المتأمِّل في الخلق يتحتم عليه أن يجد فيه انعكاسًا لصفات وكمال الخالق سبحانه، في حين نلمح مع هول تعداد وتنوع المركّبات المشكّلة للمخلوق سواءً في مجال الأكوان والأفلاك المنثورة أو نطاق الخلية الحية الدقيقة حين نلمح بين هذه الأجزاء كمًّا هائلًا ومعقّدًا من العلاقات الخفية والتي لا تزيدنا معرفة جانبٍ منها إلّا غموضًا وإعجازًا وإجلالًا.
وكذا المتابع لأحداث الدهر ووقائع الزمان وترتيب الأقدار في دنيا الناس يلمس من لطف التقدير وحكمة التدبير وتداخل التأثير الشيء العجيب الذي ظاهره التشابك والتعقيد وحقيقته الإحكام في لطفٍ والعدل في يُسرٍ، من يتأمل ما سبق يجد القرآن وهو كلام الله وصفته مع تفصيل آياته وتصريف معانيه وعجيب كلماته مشحونًا بضوابطٍ خفيّة، والمعاني اللطيفة التي لا تزيد آيات الكتاب إلّا إحكامًا وإبهارًا وبيانًا.
ولأجل ذلك فإنّه لا بد أن يكون هذا القرآن هو كلام الخالق العليم الحكيم اللطيف سبحانه.
التعليقات