من المعروف أن التغيرات الكبرى غالبًا ما تكون نتاج تفاعلات معقدة ومتداخلة، وكثيرًا ما تقوم على انقلابات مجتمعية أو أممية، لكن أن يصير فردًا ما منعطف التحول التاريخي هذا هو الشيء العجيب والغريب، لقد حمل لنا التاريخ البشري نماذج متعددة لأناس غيّروا بالفعل مجرى التاريخ، سواءً كان هذا التغيير جيدًا أو سيئًا، إيجابيًّا أو سلبيًّا، نافعًا للبشرية أو مضرًّا لها، خيرًا لأقوام هؤلاء الناس أو وبالًا عليهم، في النهاية أن يكان لدور هؤلاء الأفراد أثرًا بالغًا على تبديل وجه الأرض، وعلى صورة حياة كثير من سكانها.
في مسلسل سقوط الإمبراطوريات تأخذ هذه الظاهرة –التغيير الفردي للمسار التاريخي- دور البطولة في أحيان كثيرة، فأبطال السقوط هنا أفراد تولوا دفة القيادة في ظرف تاريخي خاص جلب بهم ليتموا مهمة السقوط، ويشكلوا عنصره الأظهر، فيتوجون بذلك النهايات في احتفالات جنائزية مهيلين بذلك التراب، طاوين صفحات التاريخ على إمبراطوريات قد عاشت طويلًا.
نتناول في هذه الإطلالة شخصيتين ترأستا إمبراطوريتين وأحدثا فيهما أثرًا كارثيًّا، هذا وإن كان أثر أحدهما يمثل حقيقة تاريخية قد وقعت بالفعل، في حين يمثل الآخر واقعًا مستقبليًّا محتملًا، لكن اللطيف في الأمر –مع نفس النتيجة الواقعة في الحالة الأولى، والمحتملة في الحالة الثانية- هو أن الشخصيتين على النقيض من بعضهم البعض بشكل مثير للعجب، فصار عندنا نتيجة واحدة أفرزتها شخصيتان متباينتان ودافعان متضادان.
الشخصية الأولى هو جورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي، لقد كان جورباتشوف شخصية مثالية مبدئية، كان مفكرًا وفيلسوفًا له رؤيته الخاصة للواقع السياسي، ثم إنه يؤمن بأفكاره إيمانًا كبيرًا ويخلص لها جدًّا، وقد تولى رئاسة الاتحاد السوفييتي في وقت حرج من تاريخ الاتحاد حاملًا معه رؤيته الإصلاحية المتمثلة في سياسات الانفتاح، بيد أن تماشيه مع أفكاره المثالية كان له دور رئيسي في تفكك الاتحاد السوفييتي.
هذه النظرة المثالية والسياسات الإصلاحية (إعادة البناء والشفافية) كان لها ارتدادات أبعد من حدود الفكرة والفلسفة، فلم تمض سنوات حتى سقط الاتحاد السوفييتي وتفككت جمهورياته.
وحينما كانت الأجواء مشتعلة في كل أركان الإمبراطورية شرقيها وغربيها؛ حرب في أفغانستان، ثورات وانتفاضات في أوروبا الشرقية -تشيكوسلوفاكيا، المجر، هولندا، وأخيرًا رومانيا- وكان يحتاج لكبح جماح الانفلات للقوة العسكرية السوفييتية الضاربة، لكن المبادئ تدخلت هنا لتعويض هذه القوة، وتحول بينها وبين محاولة لملمة الانفراط، فتسحب القوات مئات الآلاف من كل هذه الجهات، لتخلي الحكومات الشيوعية الموالية للسوفييت وحيدة دون دعم في مواجهة شعوبها.
نفس الأمر كان مع حائط برلين حيث لم يقنص المتسللون عبره كالعادة، ولم يدخل الجيش الذي كان على مقربة لمنع من شرعوا في كسر ذلك الجدار.
هذه النظرة المثالية والسياسات الإصلاحية (إعادة البناء والشفافية) كان لها ارتدادات أبعد من حدود الفكرة والفلسفة، فلم تمض سنوات حتى سقط الاتحاد السوفييتي وتفككت جمهورياته.
لم ينهار الكيان لوحده، بل انهار معه أيديولوجيا طفت على سطح نصف العالم، وجثمت على ملايين من البشر لعقود طويلة، وكان المسمار الأخير في نعش هذه الإمبراطورية هو ذاك الفيلسوف.
هذه السياسة النفعية الحمقاء والانكفائية التي امتزجت فيها الدوافع الشخصية بالمصلحة العامة جعلت النفوذ الأمريكي يتقلص حول العالم، فترامب ينظر بعيون التاجر النفعي الذي يريد أن يجني مكسبًا سريعًا..
أمّا الشخصية الثانية التي قد تكون منعطفًا في تاريخ أمّة، ومسمارًا في نعش إمبراطورية ما تزال قائمة، هي شخصية الملياردير الأمريكي ترامب، إنّه على النقيض تمامًا شخصية شعوبية البعض بأنها حمقاء، كثيرة الضوضاء والصخب والرعونة والكذب والفضائح أيضًا، ومن المنطقي أن تتجافى أشد ما يكون عن الفكر والمبادئ، لا تعرف إلّا المنفعة، المنفعة الشخصية قبل منفعة أمريكا حتى علق بعضهم أنّ شعاره ليس أمريكا أولًا إنّما “ترامب أولًا”. هذه السياسة النفعية الحمقاء والانكفائية التي امتزجت فيها الدوافع الشخصية بالمصلحة العامة جعلت النفوذ الأمريكي يتقلص حول العالم، فترامب ينظر بعيون التاجر النفعي الذي يريد أن يجني مكسبًا سريعًا يروج لنفسه به انتخابيًّا، لا عقلية الاستراتيجي الذي ينظر بعمق بعيدًا، فينفق اليوم ليستمر في جني الثمار غدًا وبعد غد؛ لذا تجده يتملص من التزامات، وينفك عن معاهدات، ويتخلى عن حلفائه بل يبتزهم، ليخلف وراءه فراغًا في الساحة الدولية يملأه منافسوه، وحلفاء سابقين يبحثون عن ولاءات جديدة، وتابعين يتجهون نحو الانفراد والاستقلالية والاعتماد على النفس، كل ذلك تحت بند تقليل نفقات الخزانة، وسياسة “قبضني تجدني” كما تقول العامة.
تأمّل معي إيقاف الدعم الموجه لأوكرانيا وهي على خط المواجهة مع العدو الروسي، الانسحاب من أفغانستان والتخلي عن الحكومة الموالية، ترك سوريا لترتع فيها روسيا وإيران، حرب اقتصادية مع الصين مع عقوبات على صادرات النفط الإيرانية، والنتيجة أن الصين تشتري النفط الإيراني بأسعار مميزة، دول الخليج تبحث عن غطاء حامي، دولة الاحتلال تخشى أن تصبح عارية دون غطاء بسبب الشك في الدعم الأمريكي غير المضمون فاعليته، ألمانيا المنزعجة من التحركات الأحادية لأمريكا، ومن الابتزاز الأمريكي لحلف الناتو تتوجه لبناء قوة عسكرية قادرة على حماية السياسية والاقتصادية متخلية عن عقود من أيديولوجيا ما بعد الحرب العالمية الثانية العسكرية، وعلى الاعتماد على الحماية الأمريكية، تركيا العضو الهام في الناتو تنشئ علاقات متوازنة مع روسيا، وهكذا.
هذه الكوارث السياسية جعلت البعض يعتقد أن وصول ترامب لرئاسة أمريكا كان بتأثير ودعم من بوتن، وكأنه رد روسي على الصفعة الأمريكية المتمثلة في دورها المزعوم في سقوط الاتحاد السوفييتي.
ويبقى السؤال: هل يستطيع من سيخلف ترامب أن يصلح ما أفسده؟! في الغالب لا.
إن كان جورباتشوف فيلسوف وترامب مليارديرًا، وكلاهما رؤساء لدول عظمى، لكنهم بالتأكيد يجمعهما كما يجمع غيرهما من زعماء عرفهم التاريخ –أمثال وودرو ويلسون، و نيكولاس الأول قيصر روسيا- أنهم ليسوا سياسيين.
التعليقات