هل يمثّل بوتن صحوة الموت؟

كثيرًا ما نسمع عن أناسٍ قد استلقوا على فرش الموت وأسلموا أنفسهم للحظة النهاية، وحولهم ذووهم ينتظرون لحظة الفراق الأخيرة. وفجأة تدهمهم صحوة خاطفة أو إفاقة سريعة يظن المراقب معها أنّها الحياة أتت من جديد، ولكن سرعان ما تتجلى الحقيقة وأنّ ما حصل ما هو إلّا إفاقة ما قبل الموت، وسرعان ما تلفظ الأنفاس ويُسلم الجسد إلى الموت.

في بعض الأحيان يظهر في آخر فترة ضعف الإمبراطورية إفاقة سريعة تعود لها فيها بعض أمجادها، وتسترد خلالها جانبًا من أسوارها، ويصبح لها ملوك أقوياء أشباه ملوك فترات القوة..

وكما يحدث هذا في عالم البشر يحدث في عالم الدول وخاصة الإمبراطوريات الكبيرة ذات الأعمار الطويلة؛ فالإمبراطوريات في نشأتها غالبًا ما تأخذ فترة ليست بالطويلة بالنسبة لعمرها الكلي، بل قد تأخذ طور التكوين صورة الطفرة السريعة، وبعدها تظل الإمبراطورية في طور القوة لفترة متوسطة نسبيًّا لتتدنى بعدها في الضعف تدريجيًّا مكونة الفترة الأطول في تاريخ الإمبراطورية أو ما تبقى منها حتى تسقط وتندثر.

(هذا لا يمنع من وجود حالات تنهار فيها الإمبراطوريات بشكل مفاجئ¬: الفرس الأخمينيين على يد الإسكندر – الفرس الساسانيين على يد المسلمين – الأمويين على يد العباسيين).

لكن في بعض الأحيان يظهر في آخر فترة ضعف الإمبراطورية إفاقة سريعة تعود لها فيها بعض أمجادها، وتسترد خلالها جانبًا من أسوارها، ويصبح لها ملوك أقوياء أشباه ملوك فترات القوة، بيد أنّ هذه الظاهرة لا تدوم طويلًا كإفاقة سريعة قبل الموت وتكون خاتمة ونهاية الإمبراطورية.

الإمبراطورية البيزنطية من أطول الإمبراطوريّات التي عرفها التاريخ عمرًا، فمنذ نشأتها كجزء من الإمبراطورية الرومانية كإحدى أكبر الإمبراطوريات على وجه الأرض، حتى بدأت تضعف ويتقلّص نفوذها وتتقلص أراضيها، وما عاد يعصمها إلّا حصانة موقع عاصمتها القسطنطينية.

على الرغم من ذلك فإن القرن العاشر مع تأخره يُعَد العصر الذهبي لبيزنطة، وفيه استفادت سمعتها وموقعها حتى احتل اللاتيني عاصمتها القسطنطينية في بعض حملاتهم، فما عادت القسطنطينية مرة أخرى إلا وقد جُرِّدَت من كل ما تبقى من أراضيها في البلقان لتنتظر مصيرها المحتوم، ونهايتها المدوية وتداعي أسوارها الحصينة بعد ذلك بقليل.

مثال آخر: وهو الخلافة العباسية؛ ففي مرحلة القوة دامت مائة عام. أخذت الدولة في الضعف وتقلص النفوذ حتى آل بها الحال إلى أن أصبحت حكمًا صوريًّا شرفيًّا ليس للحاكم فيها من أدوات الحكم وقوته شيء، وما كان للخلفاء أدنى دور في تصريف الأمور حتى داخل مدينتهم بغداد. ظل هذا الحال مدة طويلة إلى أن كان آخر أيام الخلافة العباسية في بغداد؛ حيث توفر عدد من الخلفاء الأقوياء بالتزامن مع ضعف سلاطين الممالك المهيمنة حولهم فبدأ للخلافة دور ملحوظ في إدارة العراق وتسيير الجيوش ومخاطبة السلاطين بنديّة، وقد دامت هذه الحال إلى عهد (المستعصم بالله) حتى سقطت بغداد على يد المغول.

مثال أخير: وهو الإمبراطورية العثمانية، هذا المثال وإن كان مختلفًا إلّا أنّ فيه بعض الشبه لحالتنا تلك، فبعد سليمان القانوني (1520م-1566م ) دخلت الدولة طور الضعف إلى آخر أيامها ولم يكن لها تلك الإفاقة، إلّا أن وجه التشابه هو ذلك المجهود الذي قام به سلطان قوي وهو عبد الحميد الثاني، جاء بعد فترة تتابع بها سلاطين ضعاف، فحاول السلطان عبد الحميد إحياء الدولة مرة أخرى ولكن مجهوداته لم تعدُ كونها؛ إلّا أن تكون محاولة عارضها خط الزمان، وحركة التاريخ ومعطيات واقع مفروض يستحيل تجاوزه، فباءت محاولته بالفشل ولم يكن لها أي انعكاس باستثناء وجود سلطان قوي مكافح لحركة السقوط.

هذه الإفاقة الجديدة والثورة الثانية للدور الروسي مرتبطة بشكل كبير بشخص الرئيس بوتن ذي الشخصية القوية المناورة.

ومع استحضار تلكم المشاهد يبرز لنا مشهد آخر هو مشهد الإمبراطورية الروسية الذي برز منذ أواخر القرن السابع عشر، وظل هذا الكيان له نفوذ قارّي وعالمي وإن تعددت ألوانه وتعاقبت أعلامه حتى سقط سقوطًا مدويًا ومفاجئًا وإن كان مرتقبًا. كان ذلك سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك جمهورياته عام 1991، لكن هذا السقوط لم ينهِ الدور الروسي كما ظنّ البعض. فبوصول بوتن إلى قمة السلطة السياسية كرجل قوي أوحد، وعقب معالجته لمشكلاته الداخلية عادت روسيا لأداء دورًا عالميًّا من جديد أرجعها إلى خانة الكبار في النظام العالمي، بل بدأت تلاعب غريمتها السابقة أمريكا على صعيد كثير من السياسات وفي عديد من الساحات وبؤر الصراع.

هذه الإفاقة الجديدة والثورة الثانية للدور الروسي مرتبطة بشكل كبير بشخص الرئيس بوتن ذي الشخصية القوية المناورة. ومع استبداد بوتن داخليًّا بإدارة الحكم وعدم سماحه بوجود شخصية قوية بجواره، هل تكون هذه الإفاقة مرتبطة بوجوده فتتلاشى بغيابه؟

إن الإجابة على هذا السؤال مهمة في توقع سيناريوهات الإفاقة الروسية واحتمالاتها المختلفة، وما يترتب عليها من رسم سياسات التعامل مع الروس على المدى القريب والبعيد.

ويبقى السؤال: هل يمثل بوتن صحوة الموت؟


التعليقات