رحم الله الشيخ العالم العلامة فضيلة الدكتور حسين حامد حسان وغفر الله، ما أكبر مصائبنا في فقد علمائنا وأئمتنا. رحم الله عالمنا وغفر له، وقد أطال الزملاء في ذكر مناقبه ومناصبه العلمية، وبعضا من مؤلفاته، لكنني أذكر هنا موقفا شخصيا مع فضيلته رحمه الله تعالى، وكذا فوائد دونتها في لقائي معه عام 2013م، وتحديدا يوم 29/12/2013م بمكتبه دار الشريعة للدراسات المالية – المعادي – 3 ش 79 – الساعة التاسعة مساءً.
أما الأمر الخاص:
فقد كنتُ ضمن من يقومون بالاتصال بشخصيات شرعية وقانونية للإشراف على مشروع إعداد قانون أحوال شخصية طبقا لمذهب الإمام أحمد (مدونة الأسرة السعودية)، وكان من ضمن من تم الاتصال بهم الدكتور محمد كمال إمام، والدكتور جمال الدين عطية رحمه الله، والدكتور طارق البشري والدكتور حسين حامد حسان وغيرهم.. وذلك بغرض عرض العمل والإشراف على المشروع وعلى صياغته، ومراجعة مواده، ومذكراته التفسيرية، ونحو ذلك مما يتعلق بالمشروع الكبير..
وبعد الاتصال بالدكتور حسين حامد حسان فوجئت أنا وأخي وصديقي الأستاذ أشرف عبد الله أن الدكتور حسين مريضا، ويريدنا أن نقابله في (المستوصف)! فوافقنا على الفور، ورافقناه من بيته إلى المستوصف القريب بالمعادي الملحق بمسجد! ولك أن تتخيل أن رجلا عالما بهذه القامة يلبس ثيابا عاديا وأقل من العادي، وينتظر ضمن المنتظرين للدخول على الطبيب في ساحة المستوصف (شبه المجاني) الملحق بالمسجد، وما كان مني أنا والأستاذ أشرف عبد الله إلا أننا كنا نتعامل مع الشيخ الدكتور بتبجيل شديد واحترام جم، في طريقتنا في الكلام معه، وحركاتنا، فكان الجالسون في ساحة انتظار المستوصف ينظرون لنا بغرابة شديدة، لا سيما وأنا أرتدي بدلة كاملة، والشيخ رحمه الله يرتدي جلبابا عاديا، ويتكيء على عصا! وهم بالطبع لا يعرفونه، ولا يعرفون مكانته، لكنها مكانة العلماء التي ضاعت في مجتمعنا الإسلامي، فضاعت معها القدوة والريادة لعلمائنا رحم الله من مات منهم، وحفظ الحي..
وأما اللقاء الثاني وقد كانت فيه من الفوائد العلمية الكثير.. فقد كان هذا اللقاء في مكتبه بدار الشريعة للدراسات المالية – المعادي – 3 شارع 79 – الساعة التاسعة مساءً، وقد كان لقاءً حافلا، تناولنا معه العديد من القضايا العلمية التاريخية الفقهية، وعندما رجعت إلى بيتي دونت بعضا منها، أذكر منها ما يلي:
أولا:
في عام 1965 التقى الشيخ الدكتور حسين حامد حسان رحمه الله بالرئيس الباكستاني ضياء الحق، وأبدى الرئيس رغبته في تطبيق الشريعة وأسلمة المجتمع، فقاموا بمراسلة المتخصصين في مصر وسوريا والأردن وغيرها لبيان تصوراتهم وخططهم في الفن والإعلام، وكانت النتيجة على حد قوله (صفر)!! فقال له الرئيس ضياء الحق: وماذا أفعل أنا؟ كل الموجود في الإعلام الآن حرام لا يجوز وأنا متحرج منه، إلا أن أطلب من أحدهم أن يمسك البخاري ويقرأه في الراديو من الصباح حتى المساء!
ثانيا:
والتقى الشيخ الدكتور حسين حامد حسان رحمه الله في نفس السنة بالملك إدريس السنوسي وطلب منه الملك وضع قانون للأحوال الشخصية على المذهب المالكي.
ثالثا:
في عام 1973م كان من طلابه في المملكة العربية السعودية الشيخ قاضيا يدعى عبد الملك، وكان طالبا عنده في الدراسات العليا، وهو من طبقة صالح بن حميد وغيره من طلبة الدراسات العليا، وقد عُرضت عليه قضية قامت فيها زوجة بالاتفاق مع عشيق لها باستدراج الزوج وإيهامه بالصلح معه، وقتلوه وقطعوه أجزاءً، ورموه في حفرة وأوقدوا فيها نارا، وقامت الزوجة القاتلة بنصب خيمتها فوق الحفرة، ثم تم اكتشاف الجريمة بنبش حيوان أو ما نحوه، واعترفت المرأة، وكانت المشكلة أنها أم لابن القتيل، وعلى ذلك فلا يُقْتَص منها، لأنه لا قصاص بين ابن ووالديه، وجاء عبد الملك إلى الدكتور وقال أنا أريد أن أحكم فيها بإعدامها، لكن يعوزني أنها أم لابن القتيل فلا قصاص عليها، والقضية مثارة، فذكر الدكتور أنه اقترح على القاضي عبد الملك أن يكيف القضية طبقا لمذهب مالك في القتل غيلة، وفي هذه الحالة ستقتل المرأة حدا لا قصاصا، وهو ما صنعه القاضي عبد الملك، وكان حكمه في القضية في حوالي عشر ساعات، وأعدمت المرأة بعدها بيومين أو ثلاثة.
رابعا:
ذكر رحمه الله أن خبرة أرباب المذاهب بكتبهم تفوق غيرهم، ومن أمثلة ذلك أنه قام باستخراج نظرية عامة من المذهب المالكي من مختصر خليل حول المسؤولية التقصيرية في الأحوال المدنية والجنائية من جملة قالها الشيخ خليل في مختصره في باب الصيد والذبائح، وهي تتعلق بضمان من مر على صيد ما زالت فيه الروح، فيلزم تزكيته، فإن تركه ومر دون تزكية ضمن ثمنه! وهي تشير إلى المسؤولية المشتركة بين أفراد المجتمع، وعطف الشيخ خليل على النفس والمال، فأشار بذلك إلى الجنائي والمدني أيضا، وعلى ذلك فلو وجد جريحا ينزف ولم يغثه، وكان بينه وبين الجريح عداوة فعلى مرجوح مذهب مالك يقتص منه! وعلى الراجح عليه دية مغلظة في ماله الخاص وليس العاقلة، ومن أمثلتها أيضا إذا هاجمه حيوان مفترس كأسد ولم يفتح له باب داره لنجدته، وقد ذكر الدكتور أنه وضع هذه النظرية في المادة (173) من مشروع القانون المدني الذي قدمه لصوفي أبو طالب في السبعينات.
خامسا:
في تقييمه لمشروع الأحوال الشخصية الذي تم إعداده في برلمان صوفي أبو طالب، قال: إن تقييمه له لا يتعدى 50% !! بالرغم من أنه هو من أعد أغلبه!! والسبب في ذلك أن مواده كانت تقريبا حوال (1800) مادة، وقام بصياغتها في حوالي أربعة أشهر ونصف، حيث كان صوفي أبو طالب يتصل به كثيرا لاستعجاله بناء على اتصال السادات له: فين يا صوفي المشروع؟!
سادسا:
أما المثال الآخر في خبرة أصحاب المذاهب بكتب مذهبهم واستخراج الكنوز منه ما اشتهر من أن سد الذرائع من الأصول المعتبرة عند المالكية وغيرهم؛ إلا أن اشتهار المالكية ومن بعدهم الحنابلة في هذا الباب أكثر من غيرهم، بل ويقال على مذهب الشافعية أنه لم يأخذ بهذا الأصل كثيرا لأنه قريب من مذهب (الظاهرية) – على حد وصف الدكتور، إلا أن الدكتور قام باستخراج نص صريح للشافعي في سد الذرائع، وبذلك اعتبره أول من تكلم في هذا الباب كلاما صريحا، فالإمام مالك دلت فروعه على هذا لكنه لم يصرح به، وكذا غيره من الأئمة، والسبب في ذلك أن من بحث في مظان ذكر الشافعي لهذا الأصل في الرسالة أو الأم لم يقف على هذا النص، وقد وقف عليه الدكتور صريحا في باب إحياء الموات.
رحم الله الدكتور الشيخ العالم العلامة حسين حامد حسان وغفر له، ورفع درجته في عليين.
التعليقات