الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي الصادق الأمين المبعوث رحمةً للعالمين،وبعد
إننا نخطيء عندما نختزل محاسبة النفس في الالتزام بالعبادات الظاهرة أو تجنب المعاصي الظاهرة، فإن العيوب الخفية أخطر وأشد فتكاً بالإيمان وبنيانه..
ثم نخطيء مرتين عندما نختصر معالجة النفس في بعض الطاعات الظاهرة كحضور درس أو زيادة في النوافل ، ذلك لأن أمراض النفوس ذات روافد تغذيها قد تكون – بل غالبا ما تكون – من المباحات التي لا نسعى لهجرها..
ولعل ذلك ما جعل ابن القيّم ـ رحمه الله ـ يلخص المخاطر المحتفة بالقلب بقوله : “وهلاكُ القلب من إهمالِ النفسِ ومن موافقتها وإتباع هواها “..
وللتوضيح ، فقد تكون أمراض النفس متعلقة بالتعامل مع الآخرين ، فتحتاج إلى علاجٍ خاصٍ كأبي ذرٍ رضي الله عنه لما عير بلال رضي الله عنه فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم “إنك امرؤ فيه جاهلية“، فوضع خده على التراب وأقسم ألا يرفعها حتى يطأ بلال بقدمه على خده ، فلا نتخيل أن يسمع أبا ذر قول النبي له ثم يذهب ليصلي ركعتين أو يتصدق – مثلاً – ، كما يفعل البعض مع عيوبه الخفية.
إذاً فهو “العيب الخفي” الذي لا نهتم بتحديده، ولا ننشغل بإصلاحه، بينما ذلك هو سبب هلاك القلب..
وتأمل معي ـ أخي الفاضل ـ هذا النموذج للتعامل مع عيوب النفس الذي ذكره الإمام ابن حزم في رسائله عن نفسه ومناظرته لها واطلاعه على عيوبها ، ثم معالجته لهذه العيوب، يقول ابن حزم رحمه الله : «كانت فيّ عيوب، فلم أزل بالرياضة (مجاهدة النفس) واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين،في الأخلاق وآداب النفس أعاني مداواتها ،حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها (العيوب) ، ليتعظ بذلك متعظ إن شاء الله .
فمنها: كلف في الرضاء[1] ،وإفراط في الغضب، فلم أزل أداوي ذلك حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة بالكلام والفعل، وامتنعت مما لا يحل من الانتصار وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً ،وصبرت على مضض مؤلم كان ربما أمرضني، وأعجزني ذلك في الرضى[2] ، وكأني سامحت نفسي في ذلك.
ومنها: عجب شديد، فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها حتى ذهب كله ولم يبق له والحمد لله أثر، بل كلفت نفسي احتقار قدرها جملة واستعمال التواضع.
ومنها: محبة في بعد الصيت (حب الشهرة) والغلبة ، فالذي وقفت عليه من معاناة هذا الداء الإمساك فيه عما لا يحل في الديانة، والله المستعان على الباقي[3].”
فتأمل في هذا الفقه لنفسه والإلزام لها بما يضاد أهواءها ، بل وتعجب من فقهه ـ رحمه الله ـ وهو يقول: «من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه ، فإن أعجب بفضائله ، فليفتش عما فيه من الأخلاق الدنية،فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه فليعلم أنه مصيبة للأبد وأنه أتم الناس نقصاً، لأن العاقل من ميز عيوب نفسه…” ويقول: ” .. فإن أعجبت بأرائك فتفكر في سقطاتك واحفظها، وإن أعجبت بخيرك فتفكر في معاصيك وتقصيرك، وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه وأنه موهبة من الله… »[4] .
فلنقف مع أنفسنا وقفة نطلع فيها على عيوبها الخفية..
ولنكن صرحاء مع أنفسنا في المكاشفة بهذه العيوب..
ولنتعامل بحزمٍ ـ كابن حزم ـ في قطع روافد المرض ومداواته بنقيضه..
قبل أن تتحول العيوب لأمراضٍ مزمنة نتعايش معها تحرق الإميان وتميت القلب..
ولنعلم أن نقض عرش الجاهلية يبدأ بنقضها في النفس ..
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل
الهوامش
(1) استرضاء الأصدقاء والإخوان حتى تبقى المودة ولو على حساب الكرامة الشخصية ، كما يفهم من كلام ابن حزم .
(2) أي عجز عن معالجة هذا العيب .
(3) رسائل ابن حزم الجزء الأول ص 252 .
(4) المصدر السابق 287
التعليقات