أثر الأحداث والوقائع على البناء العقلي والفكري للأجيال

حين أنكرت نفسي:

أثر الأحداث والوقائع على البناء العقلي والفكري للأجيال:

يعتقد البعض أنّ الآراء والمذاهب والاختيارات الفكرية إنّما هي وليدة الأدلة والبراهين تختلف باختلاف ظهورها أو اعتبارها والأخذ بها، أو أنّها ثمرة ونتاج العقول تتنوع بتفاوت قوّتها وتعدد أنماطها، ولكن الحقيقة أن ما يتبناه الإنسان من أفكارٍ ويشيّده من تصوراتٍ إنّما هو نتاج عوامل عدّة تتضافر وتتداخل لتفرز لنا مُخرَجًا نهائيًّا أو تدفع إلى تبني أحد المنتجات التي عرفها الواقع.

الأحداث والوقائع لا تؤثر على الأفكار كمنتجاتٍ نهائيةٍ فحسب، بل تساهم في بناء وتشكيل العقود التي هي آلة إنتاج هذه الأفكار..

وإذا حاولنا حصر أهم هذه العوامل يتصدر في مقدمتها الطبيعة النفسية للشخص، مضافةً إلى السمة العقلية له، ثم المدرسة الفكرية التي يشب فيها والمشارب المعرفية التي ينهل منها، ثم يأتي دور المكان وأثر البيئة الحاضنة والمناخ العام من حوله والجو المحيط به، ومن بعده دور الزمان وارتدادات الأحداث التي تعصف به وسط الوقائع التي تنتابه، هذا غير الميول أو الأهواء الشخصية، بعض ذلك أو كله يشارك في الأدلة والبراهين في إخراج النتائج وتبلور التصورات والأحكام وبناء الأفكار.

وفي هذا المقال سنكشف عن أثر الأحداث والوقائع على البناء العقلي والفكري للأجيال؛ فالأحداث والوقائع لا تؤثر على الأفكار كمنتجاتٍ نهائيةٍ فحسب، بل تساهم في بناء وتشكيل العقود التي هي آلة إنتاج هذه الأفكار، ولعمومية الأحداث والوقائع فإنّ مجال تأثيرها يتخطّى دائرة الأفراد ليشمل نطاق الأجيال.

ولإسقاط هذه الفكرة على الواقع سأختار شريحةً من الشرائح الاجتماعية، وهي شريحة الحركة الإسلامية، وأحاول تتبع آثار الأحداث على بناء الأجيال العقلي والفكري، وقد قسَّمت بعد التأمل أجيال الحركة الإسلامية المعاصرة من نشأتها حتى يومنا هذا إلى أجيالٍ خمسة اعتمادًا على هذا المنظار؛ بحيث قارنت طبيعة كل جيلٍ بطبيعة الأحداث والوقائع التي قد عاصرها.

فالجيل الأول قد عاصر عالمًا متعدد الأقطار، وعاين حربين عالميتين جرى فيهما كثيرٌ من التفاعلات التي أحدثت انقلابًا في شكل العالم، كما أنّه قد شهد ثورةً ونشاطًا فكريًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا على المستوى المحلي والعالمي.

فامتازت عقلية هذا الجيل بأنَّها عقليةٌ واسعة الأفق مرنةٌ في الطرح بارعةٌ سياسيًّا منفتحةٌ حركيا هذا بالإضافة إلى روحٍ ثورية دافقة.

بدأ يتبلور عندنا جيلٌ أشبه من حيث النشأة بالجيل الأول الذي قد سبقه بقرنٍ من الزمان، ثم زاد هو عليه ما توفر بين يديه من رصيد خبرة ناشئ عن السنين المائة التي بينهما.

ثم يأتي من بعده الجيل الثاني الذي نشأ في ظل الحرب الباردة بين قطبي العالم وقتها، كما عاش تحت حكم الاستبداد المطلق ونظم الحزب الأوحد، فالحرب الباردة أحدثت حالةً من الاستقطاب الحاد بين قطبين متنافرين متصادمين، والدول الاستبدادية لم تُعرَف فيها إلّا ثقافة الرأي الواحد ولغة الصوت الواحد، فكان جيل الحركة الإسلامية جيلًا ثوريا في حركته حادًّا في أفكاره أحاديًّا في نظرته وطريقته.

أمَّا الجيل الثالث فإنَّه وإن أظلَّه هو أيضًا عالم القطبيْن إلَّا أنّه شهد قدرًا من الانفتاح والنشاط السياسي والاجتماعي، وعادت في زمنه ولو جزئيًّا أو صوريًّا الحياة الحزبية والعمل النقابي والطلَّابي، فصُبِغَ جيل هذه المرحلة بلونين؛ أحدهما ثوريٌّ كامتدادٍ للجيل السابق لكنّه أكثر انفتاحًا مجتمعيًّا، والآخر أضاف إلى انفتاحه الاجتماعي امتلاك مرونةً حركية ومهارات الممارسة السياسية الداخلية.

لكن وفي ظل عالم القطب الأوحد برز أبناء الجيل الرابع الذين وجدوا أنفسهم وقد زجوا في صراعٍ أممي حيث اجتمع خصوم الداخل والخارج تحت لواءٍ واحد، فلم يتفتق هذا المشهد إلّا عن روحٍ ثوريةٍ حادة تحاول مقاومة هذه العاصفة الهوجاء، وقد امتازت مع طبيعتها الثورية والحادة أنّها حازت قدرٌ من إدراك البُعد العالمي للصراع، وإن كان هذا الإدراك محكوما بنظرةٍ ثورية.

هذا بالإضافة إلى شريحةٍ ليست بالقليلة سرت فيها روح التعايش وطلب المسالمة أمام الهجمة العاتية، وحاولت أن تتوارى بلونٍ باهتٍ في مزيج الواقع المفروض مقدمةً بأطروحةٍ هزيلةٍ تتكيف مع استغلاظ الجبابرة وتسد ثغرات قد تتسرب من خلالها بواعث الثورة مشكلة صمام أمان ينفث عما زاد من البخار المكتوم خوفا من أن ينفجر.

فبين العقلية السياسية المرنة والمنفتحة، والعقلية الثورية الحادة والأحادية تقلّبت الأجيال وتنوعت طبائع  أبناء التيار الواحد، وهذا ما حدا بي في لحظةٍ من الزمان إلى أن أنكرت نفسي…

وفي النهاية وبعد أن دار الزمان دورته يتقدّم في الأفق الجيل الخامس، وهو جيلٌ عاصر تفجر الثورات الداخلية وزامن عالمًا متعدد الأقطاب متغير الأحوال متقلب الأجواء متلاطم الأحداث، فمثّل هذا المحيط بيئةً من الأحداث تماثل البيئة التي عاشها الجيل الأول، وبدأ يتبلور عندنا جيلٌ أشبه من حيث النشأة بالجيل الأول الذي قد سبقه بقرنٍ من الزمان، ثم زاد هو عليه ما توفر بين يديه من رصيد خبرة ناشئ عن السنين المائة التي بينهما.

فبين العقلية السياسية المرنة والمنفتحة، والعقلية الثورية الحادة والأحادية تقلّبت الأجيال وتنوعت طبائع  أبناء التيار الواحد، وهذا ما حدا بي في لحظةٍ من الزمان إلى أن أنكرت نفسي، فبعد ما يزيد عن العقدين وأنا أخوض في هذا التيار كواحدٍ من أبنائه ثم أنظر إلى نمط عقليتي وطبيعة نظرتي وأقارن كيف كانت في مقتبل حياتي وكيف هي الآن لحظة تسطيري لهذه الكلمات، تلفت وجهي من جهةٍ إلى أخرى فجوةٌ واسعةٌ بينما كنت عليه بالأمس من حدة الثورة وأحادية الرؤية وما أنا عليه اليوم من واقعية النظر ومرونة الطرح حتى تحيرت بين أن أنكر نفسي الأولى وكيف كانت أم أنكر نفسي الأخرى وإلام صارت!

هذه الحالة هي التي قدحت فيَّ شرارة التأمُّل لإدراك السر وراء هذا التغيُّر، نعم قد تتوفر عواملٌ شخصيةٌ تؤهل البعض للقفز على حبال التحول، إلّا أنّ هذا لا يفسر مشهد التغير ذاك، فهل فارق العمر وحده هو ما أحدث هذا التغيُّر؟ أم هي حصيلة التجربة وميراث خبرة؟ لكنّه عند مزيد تأمل ألمح أثر الواقع ووقع الأحداث، وطبيعة المرحلة الزمانية على هيكلة هذا التحول الذي ألمَّ بي، فأنا من أبناء الجيل الرابع قد ترعرعت في إطاره، ولم أدرك من أثار الجيل الثالث إلّا الأطلال، ثم إنِّي عاصرت تفجر مرحلة الجيل الخامس، وتفاعلت معه بطريقةٍ أعدت معها صياغة نمطي العقليّ وطريقة تفكيري مما دفع بي إلى هذه القفزة، وأحدث لي هذا التحول.

ما سبق آنفًا وذكرنا أمثلةً منه ليس قاصرًا على ميدان الحركات وأبناء الجماعات، بل إن إفرازاته الأعم لتشمل كل العناصر البشرية أيًّا كان محيطها، فكوادر الأنظمة السياسية يخضعون لهذا التأثير أيضًا مهما كانت عراقة مؤسساتهم، فأجواء الحربين العالميتين وعالم الأقطاب المتعددة أنشأ لنا جيلًا سياسيًّا من نموذج تشرشل الموهوب كما قدمت لنا حقبة الحرب الباردة سياسيون من أمثال كسنجر، أمّا عصر القطب الواحد وما بعده حيث لا لغة فيه للسياسة إلّا البلطجة فقد أخرج لنا أمثال بوش الصغير وترامب الكبير.

وهكذا تمضي الأحداث وتأتي الوقائع لتساهم في تشكيل عقلية الأجيال وتدفع إلى توجيه تيار الأفكار.


التعليقات