المرونة طريق الربح أم الخسارة

لا زالت المرونة بين الناس مظلومة، فبينما نجد من يعدُّها كمالًا ويمتدح أصحابها بها، نجد كذلك من يعدها نقصًا ويذم من يصفهم بها، وحتى بين من يمتدحونها في الجملة يختلفون في قبولهم أو رفضهم لها عندما تُطبّق بشكلٍ معين، أو في مجالٍ معين من مجالات الحياة العملية.

قيمة المرونة

بما أننا معنيون هنا بمجالات العمل في المقام الأول لا بمجالات العلم المجرد، فإننا نجد أن القيمة الكبرى للمرونة تظهر باعتبارها تكيُّفًا مع ظروف الواقع، فالإنسان دائمًا يعيش في ظل مجموعةٍ من الظروف الواقعية المتداخلة في تأثيرها من جهة والمتدرجة، وربما بعدًا من جهةٍ أخرى، ثم إن هذه الظروف الواقعية منها ما قد يعجز الإنسان عن دفعه، ومنها ما قد يستطيع دفعه أو التأثير عليه، ولو بدرجةٍ من الدرجات مع قدرٍ من المشقة، ومنها ما تسهل مدافعته أو التعامل معه بما يحقق مصالح الفرد أو المجموع في الحياة.

المرونة وسيلةٌ يتفاعل عبرها الإنسان مع ظروف واقعه المؤثرة عليه، فالنظر إليها إنما يكون كالنظر إلى غيرها من الوسائل..

والتكيُّف مع الواقع له أشكال أخرى غير المرونة، فالذوبان والانصياع لإملاءات الواقع أيّما كانت هو شكلٌ آخر ربما يعتبره أصحابه تكيُّفًا، لكن الفارق بينه وبين تكيف المرونة أنه يزيل خصوصية الفرد أو المجموع بما يغير موقعه الحياتي ليكون مجرّد جزء من الواقع المحيط، فهو في حقيقته استسلامٌ كامل حتى لو تم بمحض الإرادة.

كما أن التعامل مع الواقع له أشكال أخرى غير التكيُّف، فالصلابة في مواجهة الظروف واعتماد مبدأي الثبات والصدام مع المؤثرات الواقعية في معارك صفرية تنتهي بهزيمة أحد الطرفين وتحطمه تمنح الفرد أو المجموع قدرًا من القوة الخافضة قدرًا من القوة الخافضة والقوة المؤثرة في آنٍ واحد، لكن معادلة القوى بين الإنسان وظروف الواقع لا تكون كثيرًا في صالح الإنسان مما يجعله عرضةً للتهديدات الأخطر مع الوقت، فبديل التكيُّف هنا يؤول إلى نوعٍ من أنواع الانتحار الاختياري.

المرونة وسيلة

بناءً على ما سبق يتقرر أن المرونة وسيلةٌ يتفاعل عبرها الإنسان مع ظروف واقعه المؤثرة عليه، فالنظر إليها إنما يكون كالنظر إلى غيرها من الوسائل والتي يُحكَم عليها بالنظر إلى قاعدتين لا تنفك إحداهما عن الأخرى، وبيانهما كما يلي:

القاعدة الأولى: الوسائل بمقاصدها

إذ أن الوسائل في الأغلب محايدة، فإذا كان المقصود من المرونة الحفاظ على الوجود أو زيادة المكاسب أو تقليل السلبيات، فإنّها تكون ممدوحةً من هذا الوجه، أما إذا كان المقصود من المرونة الهروب من المواجهة والتفلُّت مما قد يشق، واتخاذها ذريعةً للتخاذل والانسحاب فإنها تكون مذمومةً من هذا الوجه.

القاعدة الثانية: الأمور بمآلاتها

إذ أن الشرع لا ينظر إلى الأمور في نفسها وفقط، ولا بما يقصده الناس منها وفقط، وإنما بما ينتج عنها وتؤول إليه في الواقع بمقتضى العرف الجاري والتوابع المعتادة في ذلك الظرف بغض النظر عن مشروعيته من عدمها، وبغض النظر عن صدوره من أي جهةٍ كانت؛ إذ أن المكلّف مسؤولٌ عن اختياراته وأفعاله، وعن ثمرات أفعاله التي هي مآلاتٌ متوقّعة في ظل الظرف الواقعي، فالمرونة المعينة تُمدَح أو تُذَم بحسب مناسبتها أولًا، وبحسب القصد منها ثانيًا، وبحسب المآل المتوقّع ترتبه عليها ثالثًا. ويُجمَع في هذه المعادلة كلٌّ من الإيجابيات والسلبيات وبحسب الراجح ودرجة رجحانه يكون القرار السليم والتقييم الصادق، ثم المحاسبة الدقيقة بعد ذلك.

فما يترتب على كون المرونة وسيلةً ألا يكون الإنسان مُستأثَرًا لها، فإنها ليست مما يُطلَب لذاته، وكشأن كل الوسائل يُنظر إلى كل موقفٍ على حدة في سياقه الخاص، وتعاد حسابات مزاياه وسلبيته بحسب العوامل المستمرة أو المتغيرة في مشهده الواقعي.

وبناءً على ذلكم النظر المتجدد يتم تقرير طريقة التعامل المثلى في الظرف الواقعي سواءٌ أكانت بالمرونة أو بغيرها.

وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلا                مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى

صراع الإرادات

لا تكاد تخلو الحياة الدنيا من منافسات ونزاعات بين البشر أفرادًا ومجموعاتٍ، وتلكم المنافسات والمنازعات هي في حقيقتها صراعٌ في الإرادات بين أطرافها تثمر صراع إدارات تنتج في النهاية رابحين وخاسرين، فمن كانت مرونته تحافظ على عناصر قوته أو تزيد منها تجنبه شيئًا من مخاطر نقاط ضعفه أو تقلل منها؛ كانت معبرةً عن إرادةٍ قوية وإدارةٍ ناجحة، ولا يتم هذا التعبير عن قوة الإرادة ونجاح الإدارة إلا بعنصرين في غاية الأهمية:

العنصر الأول: استغلال القوة الموجودة أيًّا كان نوعها

فمن لم يحسن استثمار قوته فهو مفرطٌ في حق نفسه وقضيته، بل هو ممن يهدي المكاسب إلى خصومه دون مقابل حقيقي، فليس من المرونة الممدوحة أن أعطل إمكاناتي بما يتيح لخصمي أن ينال فرصةً مناسبة لتغيير ميزان القوى لصالحه لأنتقل من معادلةٍ في التعامل إلى معادلةٍ أخرى أسوأ منها. وباستغلال القوة بالصورة المناسبة تتحسن أشكال التكيف مع الواقع عبر الزمن والأحداث والمتغيرات لتكون كلُّ مرونةٍ مرحلية هي باب انطلاق لمرحلةٍ أخرى أفضل في الواقع.

العنصر الثاني: استثمار الفرصة المتاحة والتي لا تظل متاحةً أبدًا

فإنّ الواقع لا يبقى دائمًا موصوفًا بالصلابة والتماسك والإحكام، بل إنّ كلّ شدةٍ يتبعها فتور، والأيام دول والمصالح تتلاقى وتتباعد بين الناس، والعاقل البصير يراقب بدقّة ويتحيّن الفرصة، فإذا جاءت لا يضيعها، فإن حسن استثمار الفرص هو الذي يصنع القفزات الهائلة في الحياة الإنسانية حينما تمثل النجاحات في غيرها تقدمُّات متدرجة عبر خط سير الحياة.

إن أسوأ ثنائيةٍ خادعة تُطرح في موضوعنا هي ثنائية المبدأ أو المرونة، وكأن المرونة لا تكون إلّا تخليًّا عن المبدأ وانهزامًا أمام ظروف الواقع..

أمّا الذي يفوّت الفرص فإنه يتأخر في الحقيقة وإن توهّم لنفسه الثبات، وإن ما يفوته لا يفوت غيره، والفرصة في النهاية لمن اقتنصها لا لمن استحقها، فالمرونة تساعد الفرد أو المجموع على وصولٍ جيد ومؤهّل لحظة الفرصة ولا تحول أبدًا بين صاحب الإرادة وبين استثمار الفرصة ولا ينبغي لها ذلك عند أهل الطموح والعزيمة.

إلى صاحب الرسالة

إن صاحب الرسالة في الحياة هو إنسانٌ ذو مبادئٌ يعيش لها، وهي في نفس الوقت تحكم حياته، وإن أسوأ ثنائيةٍ خادعة تُطرح في موضوعنا هي ثنائية المبدأ أو المرونة، وكأن المرونة لا تكون إلّا تخليًّا عن المبدأ وانهزامًا أمام ظروف الواقع، ولعل هذا التصوُّر يدعمه رافدان:

أولهما: تطبيقاتٌ سيئة رفت شعار المرونة لكنّها حملت حقائق من ضعف الإرادة وسوء الإدارة، وترتب عليها نتائج وخيمة تركت آثارًا سلبيةً في النفوس لم يمحها الزمن بعد.

ثانيهما: ضعف رؤية وقلّة خبرة أنتجها ضيقًا في الأفق ونقصًا في الوعي حتى إن قطاعاتٍ من أصحاب الحماس والإخلاص صاروا أعداءً لأنفسهم ولأمتهم ولمشروعهم من حيث لا يشعرون لما نصبوه من مضادةٍ كاملة بين المبدأ وبين الواقع وما يمكن فيه. وتبقى المرونة المنضبطة خادمًا وداعمًا لمبادئ الرسالية القويمة شهدت بذلك الشرائع وقبلته العقول، ونطق به الواقع ونطق به الواقع والماضي والحاضر.


التعليقات