الحصار أسلوبٌ حربيٌّ قديمٌ في تاريخ البشرية، وفيه يصطف جيشان متقاتلان في حلقتين متواجهتين، فأيُّ الحلقتين تُوصَف بأنّه قد تمّ حصارها؟ إنها الحلقة الأضيق، والتي ظهرها لمساحةٍ أقل في مقابل حلقةٍ أوسع ظهرها لمساحةٍ أكبر.
ومنه السَّجن، وهو عقابٌ قديمٌ أيضًا، لكن الأرض كروية فإذا بنينا سورًا يلتقي آخره بأوله، فإننا نكون قد قسمنا سطح الكرة الأرضية إلى جهتين بالنسبة للسور، فأيُّ الجهتين تكون سجنًا والأخرى حرية؟ إنها الجهة الأضيق ذات المساحة الأصغر، والحرية في الجهة الأوسع ذات المساحة الأكبر، فبتفاوت النسب بين الجهتين تكون الصغرى مُحاصَرةً داخل السور، وتكون الكبرى مُحاصِرةً حُرةً خارج السور، وكلما زادت الفوارق كمًّا وكيفًا بين الجهتين كلما كان معنى الحصار أكثر تحققًا.
الحصار العلمي
من أجمل ما قرأت في تطبيق الحصار العلمي ما قام به شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحمه الله- عندما كتب الحموية الكبرى وأراد أن يحاصر فيها نفاة الصفات الربانية، فقد حشد في مقابلهم كل من يثبت جنس الصفات من المحدثين والفقهاء والصوفية وأئمة طوائف المسلمين كافة، وعلمائهم على اختلاف مدارسهم ومتكلميهم، فجعل كل هؤلاء في مقابل أهل النفي المحض ليبين بطلان النفي، وخروجه عن فهم من يُعتد بهم في الإجماع من علماء الأُمة ويُرجَع إليه في تلقي الدين من شيوخها المقبولين في الجملة لدى عمومها.
وشيخ الإسلام يعلم أن من أثبت أسماءهم ليسوا كلهم في باب الصفات الربانية من أهل السُّنة المحضة الذين يثبتون كل ما ورد من صفات الله، بل إن منهم من قد يخالف في الصفات الفعلية، ومنهم من قد يخالف في الصفات الخبرية؛ ولذلك قال بعد ذكره لهم: “وليس كل من ذكرنا يقول بكل ما نقول به لأجل الأمانة في حكاية أقوال أهل العلم مع إثبات أن كلهم من الصفاتية الذين يثبتون جنس الصفات المخالفون للجهمية أهل النفي المحض لكل الصفات الربانية، وهذا هو وجه الاحتجاج بجميعهم”.
ثم جاء الإمام ابن القيم تلميذًا ذكيًّا لشيخه الإمام ابن تيمية فاستفاد من طريقته في الاستدلال وأسلوبه في الحصار فألف على نفس المنوال كتابه القيّم [اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية] وفكرته ظاهرةٌ من عنوانه والذي يطابق مضمونه.
الحصار العملي
ومن أمثلة الحصار العمليّ: الهجر الشرعي، والذي يكون لأهل المنكر، وهنا أيضًا نجد فقهًا راقيًا لشيخ الإسلام ابن تيمية يبين فيه حقيقة هذا الهجر وهدفه، فإن هدف الهجر زجر صاحب المنكر وردع الناس عن مثل حاله، وحقيقته لا تكون إلا بكثرة أهل الطاعة وقوتهم في مقابل قلة أهل المنكر وضعفهم، أما إذا كان هاجر قليلًا أو ضعيفًا ولم يكن في هجره انزجار أحد ولا ردع غيره فإنها لا تكون هجرةً مأمورٌ بها شرعًا كما يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية.
بل إنه يذهب إلى ما هو أبعد من هذا، فينص على أن المأمور به في حال القلة والضعف هو التأليف؛ لأنه أنفع في دعوة الناس إلى الخير وكف أذى أهل المنكر عن أهل الاستقامة كما بينه في كتابه الفذ [اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم].
ولهذه القاعدة فروعٌ كثيرةٌ أخرى منها: الاجتماع في الجهاد ضد الكفار، ولو مع عدم صفاء الصف المجاهد، فيحكي ابن تيمية أن أكثر الجهاد بعد الخلفاء الراشدين كان مع أمراء ظلمة وعسكر فيه فجور، لكن ذلك لو تُرك للزم عنه استيلاء الكُفار الذين هم أشد ضررًا وإفسادًا للدين والدنيا، ويقرر أن هذه طريقة خيار الأُمة قديمًا وحديثًا، ويصف من يتورع عن مشاركة المذكورين بأنهم من أصحاب الورع الكاذب.
وبناءً على ذلك كانت فتاواه الشهيرة في جهاد التتار وأنهم يقاتلون مع كل من هو أولى بالإسلام منهم.
الذين يحاصرون أنفسهم
ثم جاء أغمارٌ من المتأخرين فاتهم فقه الشريعة كما فاتتهم خبرة الواقع فنظّروا للحصار بطريقةٍ عكسيّة ومارسوا فن الحصار بالمقلوب، وتابعهم أغرار يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فعلى مستوى العلم هم وحدهم يحتكرون الحق وكل من لم يوافقهم على الكبير والصغير فهو من أهل الضلال، وليس تاريخ الأُمة إلا تاريخ الباطل والانحراف عدا بعض نقاطٍ مضيئة: أهمها نقطتهم الفريدة، وما أسهل توسيع التكفير والتبديع حتى لا يبقى من يزاحمهم على الإسلام والسُنة ويتم إخراج علماء الأمة من دائرة الاعتبار تباعًا حتى لا يبقى من يُحتج عليهم به.
وعلى مستوى العمل هم وحدهم وتحت رايتهم فقط يمكن أن يُشرَع العمل والجهاد فكلُّ من عاداهم متهم تجب مجانبته أو خائنٌ لا أمان له، أو مُستغَلٌ من الأعداء ضد أهل الحق الذين هم أنفسهم في نظرهم.
والكل تجب مبادءته بالعداوة الدينية؛ إذ لا يسلم الدين ولا يُقام إلا بذلك وفق طريقتهم، فإذا وصلنا إلى المحصلة النهائية وجدنا قلّة مستضعفة تشيد أسوارًا عالية بينها وبين أهل الكثرة وأهل القوة جميعًا، وتحسن كسب المزيد من الأعداء وخسارة المزيد من الأصدقاء، فمن يا تُرى يكون المحاصَر أخيرًا؟
طريق الأكابر
إن طريق الحق هو طريق الأكابر من هذه الأمة الذين جمعوا علمًا واسعًا، وحرزوا فقهًا عميقًا، إن طريق الحق هو الطريق الذي يحقق للأمة رسالتها في الخلق، وتنطلق بالهداية والإصلاح في دين الناس ودنياهم، وقديمًا قالوا: إياك أن تصاحب الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وقالوا: الأحمق عدو نفسه ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾ [القيامة:14-15].
التعليقات