لا تبتأس … فإنه يدافع!

كلما ازدادوا افتراءً وبهتانًا زاد اليقين في موعود الله تبارك وتعالى بالدفاع عن المؤمنين، إنها الأمور القَدَرية التي لا يد للمفتري فيها، وإن خطط لها؛ استحالت وبالا عليه، وإن مكر؛ انقلب عليه مكره، ولم يخرج من هذا البنيان والحبكة إلا بزيادة النفاق في قلبه، والريبة والشك من الغير به: (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ)[التوبة: 110]، ولا يخرجهم عن هذه الريبة إلا نوع خاص من التوبة: (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ)، أي لا يزال بنيانهم الذي بنوا، وخططهم التي خططوا لها، وما مكروا له؛ لا يزال كل هذا مصدرا للنفاق والشك، إلا أن يتوبوا توبة تصل إلى حد تقطع القلب من الندم على ما مكروا!

فمَكْرُ اللهِ تبارك وتعالى لا يكون بمجرد تعرية سقف (البناء) لينكشف الزيف والافتراء؛ بل يتعداه إلى قواعد هذا البناء، فيكون الرد الإلهي مُزَلْزِلاً للماكر..

وإلا فإن العاقبة من المولى تبارك وتعالى واضحة في قوله (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)[النحل: 26]، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)[فاطر: 43]، فعندما يُصَرُّ المفتري على (بنائه)، ولا يرجع عن مكره وافترائه، بتوبة (خاصة) تُقَطِّعُ القلب؛ فيظهر دفاع الحق تبارك وتعالى عن الممكور به، وأي مكر مهما وصل من دهاء وافتراء أمام مكر ملك الأرض والسماء؟! (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فلم يكونوا أول من يمكر..

لكنهم لم يتعظوا بعاقبة من قبلهم، (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ)، فمَكْرُ اللهِ تبارك وتعالى لا يكون بمجرد تعرية سقف (البناء) لينكشف الزيف والافتراء؛ بل يتعداه إلى قواعد هذا البناء، فيكون الرد الإلهي مُزَلْزِلاً للماكر، ولا يقتصر انهيار البناء على مجرد التهاوي، وظهور الزيف؛ بل يتعداه إلى الإضرار الذاتي للماكر ذاته (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ)، فكأنهم يحتمون بما بنوا، ويتحصنون به، فيكون ما تحصنوا به هو سبب البلاء، ومَنْ استقووا بهم هم سبب الفناء والشقاء! ووالله إن هذا لعين الحسرة للماكر، وخير تسلية للممكور به!

وهل يتوقف الأمر على ذلك؟! لا .. سبحانه، الذي يقتص لعباده، فبعد أن يخر عليهم السقف من فوقهم، بسبب إتيان قواعد ما بنوا من أصولها وجذورها؛ تظهر (الزيادة): (وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)، فلم يتوقف الأمر على تهاوي البنيان، وانهياره على رؤوسهم، وهم من صنعه ليكون حماية لهم، وطعنا في الأغيار، بل زادهم الحق تبارك وتعالى رجسا إلى رجسهم، فيأتيهم عذاب الله تبارك وتعالى من طرق وأساليب لم يتوقعوها، أو يضعوها ضمن الاحتمالات السلبية التي فكروا فيها، فتكون المفاجأة عظيمة، ووقعها شديد..

العجيب أنه بالتجربة أن أغلب من يأتيه العذاب والمصائب من حيث لا يتوقع؛ لا يتعظ، ولا يربط ذلك بظلمه وعدوانه، بل يزداد عدوانه! (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) [الإسراء: 60]، فيزداد العذاب، ويزداد أخذ ربك، وتزهق أنفسهم وهم على حالهم، فيزدادوا إثما!! فلا تبتأس!!


التعليقات