تناقضات النفس البشرية!

امتن الباري سبحانه على تمحيض المتناقضان بالرغم من عدم المانع من الاختلاط بينهما، فقال: «مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان»، فإذا جمع المتناقضين وعاء واحد، ولم يمنع اختلاطهما سماوي؛ فلا شك في اختلاطهما، ولا أعني هنا النقيضان في المفهوم المنطقي اللذين لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولا الضدان اللذين لا يجتمعان، لكنهما قد يرتفعان.

فلا عجب إن ظهرت ممن نفترض فيه الخير بعض الصفات المذمومة، لا سيما إذا كان ذلك عارضا، مخالفا لحاله وطبعه المستقر، ولا يجوز أيضا افتراض الشر المحض في بعض البشر..

هكذا النفس البشرية التي تجتمع فيها الأضداد والمتناقضات، فيجتمع فيها الحب والكره، الشجاعة والجبن، السماحة والعنف، الرحمة والقسوة، وهكذا، بل يجتمع فيها الكفر والإيمان، فقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا»[رواه مسلم]، فما من أحد إلا واشتملت نفسه على الأضداد والمتناقضات التي تختلط في نفسه، لكن العبرة في مدى تراكم كل صفة داخل النفس، وطغيانها على الصفة الأخرى، وقد استنكر بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في نفسه، فظن أنه بإسلامه وبصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ستتمحض لديه الصفات الإيمانية، وتتلاشى الصفات الشيطانية، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: «إنا إذا كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم رأينا من أنفسنا ما نحب، فإذا رجعنا إلى أهالينا فخالطناهم، أنكرنا أنفسنا»، فنبّه النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك مستحيل، «لو تدومون على ما تكونون عندي في الحال، لصافحتكم الملائكة حتى تظلكم بأجنحتها، ولكن ساعة وساعة»[رواه ابن حبان بسند صحيح].

وعلى هذا فافتراض الأخلاق الملائكية لبشري لا يستقيم، فلا عجب إن ظهرت ممن نفترض فيه الخير بعض الصفات المذمومة، لا سيما إذا كان ذلك عارضا، مخالفا لحاله وطبعه المستقر، ولا يجوز أيضا افتراض الشر المحض في بعض البشر، فقد فطر الباري تبارك وتعالى الإنسان على الاختيار بين خير وشر في نفسه «إنا هديناه السبيل: إما شاكرا، وإما كفورا»[الإنسان:3]، وقال: «وهديناه النجدين»[البلد:10].

ثم لا يعني ذلك الاستسلام للصفات الشيطانية، أو اعتباره (من الأقدار) التي حاول المجبرة تثبيتها في النفس، لفلسفة الحرام، والاستسلام له: «سيقول الذين أشركوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرمنا من شيء»[الأنعام:148]، فقد سبق وذكرنا أن الله سبحانه هدى الإنسان كلا الطريقين، وعرفه طريق الحق بالفطرة: «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟! قالوا: بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين».

ولا شك أن فكرة الاختلاط بين الصفات المتناقضة والمتضادة في النفس البشرية هو مناط التكليف والمكافأ في الآخرة..

كذلك لا يعني وجود الأضداد والمتناقضات داخل النفس عدم إجراء أحكام الدنيا على المخالف المتبع لخطوات الشيطان باعتبار وجود الخير داخله، أو عند استنفاذ الشروط الشرعية للأحكام العقابية، باعتبار الصبر والإنظار حتى يختار الصفات الرحمانية، فقد وضع الباري تبارك وتعالى عللا وأمارات لإجراء الحكم الشرعي، سواء باعتبار الصفات الرحمانية أو الشيطانية.

ولا شك أن فكرة الاختلاط بين الصفات المتناقضة والمتضادة في النفس البشرية هو مناط التكليف والمكافأ في الآخرة، فوجود الصفات المتناقضة واختلاطها، ثم الفعل الإرادي بمراكمة بعض الصفات على بعض، أو الاختيار الإرادي لما يناقض ميل النفس تبعا لوجود الصفات الشيطانية: هو الموجب للأجر والفوز، فلو أمكن تمحض بعض الصفات في النفس البشرية لكان بعضنا خيرا محضا، وبعضنا شريرا محضا، والأول هو الـمَلَك، والثاني هو الشيطان، ونحن بشر، لسنا ملائكة ولا شياطين، لكننا قد نسمو على الملائكة إراديا، باختيار الصفات الرحمانية بالرغم من وجود الصفات الشيطانية داخل نفس النفس، وقد نكون أسوأ من الشيطان باختيار اتباعه، بالإعراض عن أمارات الهداية التي فطرها الباري في النفس البشرية.


التعليقات