صدمة الظلم
لماذا يحدث لي هذا؟ سؤالٌ يصرخ به الكثيرون عندما يتعرّضون لظلمٍ يصدمهم في حياتهم، أو حتى عندما يتصورون أو يتوهمون أنهم قد تعرضوا لما لا يطيقون من الظلم من غيرهم.
من الناس من يرى أنه قد بدأ حياته مظلومًا في أسرته، ومنهم من يرى أنه قد تعرض للظلم بعد ذلك في مرحلةٍ من حياته أو أكثر، ومن جهةٍ ممن تعاملوا معه أو أكثر، وربما يرى البعض أن حياته ليست إلا سلسلةً من المظالم التي تعاقبت في الوقوع عليه.
ويشتد الشعور بصدمة الظلم مع شعور المظلوم ببراءة نفسه، ومع عدم قدرته على دفع الظلم عنها، أو على معاقبة من ظلمها بما يكافئ ظلمه مع تكرار الظلم أو مع طول أمده على النفوس، وحينها المرّة بعد المرّة يعلو الصراخ من الناس: لماذا يوجد الظلم؟
قيام الكون على العدل
ففي الخلق عدل، وفي الهداية عدل، عدلٌ في التناسب بين كل مخلوقٍ وهدايته من جهة، وفي التناسب بين هدايات مجموع مخلوقاته من جهةٍ أخرى، حتى إن البحرين رغم التقائهما ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾..
الإنسان جزءٌ من الكون يسري عليه ما يسري على الكون من قواعد، وإن كان الإنسان جزءًا أصيلًا له مركزيته فيه؛ وبناءً على ذلك كان التفكُّر في الكون المحيط بالإنسان طريقًا إلى الهداية التي بها تُعرَف حقائق الحياة الإنسانية، لهذا كان الأمر الربّاني: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس:101].
لأن من تفكّر في الكون عرف أن الله قد خلق فسوّى فاستوت الخلائق بمقتضى الإتقان والعدل، عدلٌ في الاتزان في كل مخلوقٍ على حدة، وبين مجموع المخلوقات في الكون؛ لذلك ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك:3] وهذا تقريرٌ لنفي الخلل في السماوات الشاسعات، وبالتالي فيما تحتها؛ لأن الله قد رفعها ووضع الميزان.
فقد أقام الله خلقه بالعدل حتى إن موسى -عليهِ السَّلام- حين أراد أن يعرّف بالله قال: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه:50] ففي الخلق عدل، وفي الهداية عدل، عدلٌ في التناسب بين كل مخلوقٍ وهدايته من جهة، وفي التناسب بين هدايات مجموع مخلوقاته من جهةٍ أخرى، حتى إن البحرين رغم التقائهما ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ [الرحمن:20].
فلم يشهد الكون فقط بتوحيد الخالق سبحانه لكنه شهد أيضا بعدله المتجلي في خلقه -عزَّ وجَل- فكان شهادةً ربانية بالآيات الكونية تترافق معها شهادة الملائكة الذين منهم من ينفّذ عدل الله في خلقه، وكلهم شاهدٌ على كمال العدل مسبحٌ لربه مما أنطق أهل العلم كلٌّ على قدر علمه، ليكون شاهدًا لما رأى من عدل رب العالمين الذي أقام به خلقه كله ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران:18] فما قام الكون إلا بالعدل الرباني.
قيام الشرع على العدل
فلا يخرج أحدٌ متعمدًا عن حكم الله الشرعي إلّا إلى حكم الأهواء..
فإن أحكام الشريعة تعبيرٌ عن إرادة الله فيما يحبه من الناس ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران:108]، ولذلك فقد ﴿أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ [الشورى:17] والحق دائرٌ بين العدل والفضل ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل:90] لا ينزل إلى الظلم أبدًا؛ ولذلك وصف رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مع الناس بأنه ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف:157].
أما الذين ﴿إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ [الأعراف:28] فقد أمر الله تعالى رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يرد عليهِم بأمرين هما نفيٌّ وإثبات:
- أما النفي فهو: ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:28].
- وأما الإثبات فهو: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [الأعراف:29].
فمن يعرف الله يعرف أنه لا يأمر بشرٍّ أبدًا بل يأمر بالعدل والإيمان.
فلا يخرج أحدٌ متعمدًا عن حكم الله الشرعي إلّا إلى حكم الأهواء ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة:49]، وقد توعد الله الذين ﴿يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران:21] في سياق جامعٍ يرفع من رتبة الذين يأمرون بالعدل حيث يجعلهم ورثةً للرسُل في أمرهم بالتوحيد وبالشرائع، والذي يتضمن الأمر بكل عدل فأعداء الآمرين بالعدل كأعداء الرسل ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة:34].
العدل كمال المحبوب فطرةً وعقلًا
فلا يزال الناس منذ خلقهم الله وإلى يومنا هذا معتقدين لكمال العدل ومحبّين له ومادحين لأهله، تشهد بذلك فطرهم وتقرُّ به عقولهم، وتمدح به ألستنهم، والعكس بالعكس، فذلك من أصل الفطرة ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم:30].
ولا يزال الناس مؤمنهم وكافرهم يعتقدون إثبات أكمل الكمال للرب المعبود -سبحانه وتعالَى- ولذلك كان ﴿لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الروم:27] إذ أن واهب أنواع الكمالات للمخلوقين هو أولى منهم بكل كمال، فله أكمله وأعلاه، فكيف الشأن إذا أضيف إلى ذلك مدحه نفسه بالتنزُّه عن الظلم المستلزَم لإثبات كمال العدل، فقال: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف:49].
من أجل ذلك ذمَّ الله أعداءه الذين أساؤوا به الظنون فتوهَّموا أن يصدر عنه تعالى ما ينافي كمال عدله، فقال ربنا -عزَّ وجَل- في استنكارٍ بليغ: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)﴾ [الجاثية:21-22].
صراع العدل والظلم في الدنيا
إن الإنسان قد جاء إلى دار الحياة الدنيا ليُمتحَن بما يسرُّه وبما يؤلمه ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ﴾ [الأعراف:168] ولذلك وهبه الله أسباب النجاح في هذا الامتحان ﴿نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان:2] فانقسم الناس بالقدر الربَّاني ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف:30].
وصارت الأرض ميدانًا للصراع بين أهل الإيمان والعدل وأهل الكُفر والظلم ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء:76] وأصبح صلاحها بمدافعة أهل العدل لأهل الظلم ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة:251].
مع ما يلزم المدافعة من آلام وتضحيات هي أجزاءٌ هامة من حقيقة الامتحان فإنه ﴿لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)﴾ [محمد:4-6].
حيث لا تصفو الحياة من المكدّرات ولا تسلم من المظالم والمنغصات إلّا فيها؛ لأنها دار السلام.
لهذا وجبت الآخرة
فالموت ليس هو النهاية ولا يمكن أن يكون كذلك لإنسانٍ يحمل جروحًا تخفق بالمشاعر وتموج بالأفكار في بدنٍ هو الأكمل والأجمل في كوننا المشهود بين مخلوقاتٍ لا يحصيها العباد..
فإنه وإن كان العدل سُنَّة الكون والشرع، إلّا أن الصراع الدائر في الدنيا لا يكمُل فيه تحقق العدل المحبوب بين النّاس، فقد يعيش ظالمٌ ويموت دون أن يكتمل عقابه، وقد يعيش مظلومًا ويموت دون أن يستوفي حقوقه، فهل يمكن أن تكون هذه هي نهاية الحياة الإنسانية؟!
إن ذلك مستحيل، فلو كان الموت هو النهاية لفقدت الحياة كل حكمةٍ وقيمةٍ ومعنى بمساواة الموت بين العدل والظلم، بين الفضيلة والرذيلة، بين المسؤولية والتضييع، بل، ولكَان الموت العدميُّ خيرٌ من حياةٍ يسود فيها الظلم وتربح فيها الرذيلة والتضييع وتملؤها الخيانة، إنها إذًا باطلٌ من أبطل الباطل بلا معنًى ولا غاية ولا ميزان ولا حُسن نهاية.
ولهذا وجبت الآخرة، فالموت ليس هو النهاية ولا يمكن أن يكون كذلك لإنسانٍ يحمل جروحًا تخفق بالمشاعر وتموج بالأفكار في بدنٍ هو الأكمل والأجمل في كوننا المشهود بين مخلوقاتٍ لا يحصيها العباد كثرة تتنوع إلى ما هو صغيرٌ لا تراه العيون المجردة، وما هو كبيرٌ يحيط بالإنسان ويعلوه، ويتسع إلى ملايين من السنين الضوئية في إحكامٍ يستلزم الحكمة، وفي حكمةٍ لا يتم كمالها في الدنيا ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:191].
في الدنيا مقدمات العدل
فإنه وإن كان يوم القيامة يومًا لكمال الجزاء من ربنا ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4] ولكمال العدل حتى يُقتَص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء لما نطحتها ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾ [الزلزلة: 7-8] إلا أن قبل يوم توفية الجزاء جزاءً وقبل تمام العدل عدلًا، وإن كان في ظل الإعداد الرباني للآخرة ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ [طه:15].
لأن رب الدنيا والآخرة قال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)﴾ [ص: 27-32] وذلك شاملٌ للدارين محياهم ومماتهم.
ففي الدنيا جاء الوعد والوعيد ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)﴾ [الليل: 3-10].
وفي الدنيا وعد الله من آمن وعمل صالحًا ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل:97].
وفيها جاء الوعيد ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه:124].
وبهذا استدلت أم المؤمنين خديجة -رضِيَ الله عنها- المرأة العاقلة فنطقت بالحق قبل أن تسمعه من الوحي لمّا رجع النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- من حراء يرجف فؤاده بعد أول لقاءٍ مع جبريل -عليهِ السَّلام- فقالت له: “كلّا والله لا يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرَّحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتُكسِب المعدوم وتعين على نوائب الحق، فمن كان شأنه الإحسان إلى خلق الله، لا يكون شأن الله معه إلا الإحسان إليه” وصدّق الله كلمتها.
لكنها المقدمات التي تراها البصائر المستنيرة بأنوار الحق فتدرك مغزى الامتحان، وتميز معنى الجزاء في سُننٍ لا يسوي الله فيها بين المختلفين من الناس مهما تنوعت الأحوال ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران:185].
وفي الغيب حِكَمٌ أخرى
فإن الحُكم أيَّ حكمٍ هو تبعٌ للعلم وللحكمة، وكلما نقص شيءٌ من العلم أو فات قدرٌ من الحِكمة كان الحُكم أبعد عن كمال الصواب، والإنسان أيُّ إنسانٍ مهما بلغ من رتب الكمال البشري فنقص المخلوق ملازمٌ له ولا بد، والمؤمن له خصوصيةٌ بين الناس في معرفته بربه وعلاقته به ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة:257].
ولذلك لا يقتصر المؤمن على رؤيته للظلم والضر الذي يقع عليه، ولا يستسلم لمشاعر الألم واليأس بسبب تسلط عدوه عليه، فيقين المؤمن بكمال تدبير ربه، وأن تدبيره سبحانه لا تخرج عنه ذرةٌ في السماوات ولا في الأرض ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف:54]، وأن له -سبحانه وتعالَى- في كل ذلك حكمةٌ بالغة لا يحيط بها العباد، وإنما يتلّمسون أطرافًا منها، يقين المؤمن بكل ذلك يملأ قلبه ثقةً وتفاؤلًا واطمئنانًا.
فعندما تسلّط الكفار بالظلم على المسلمين في غزوة أحد، قال الله -عزَّ وجَل- للمؤمنين: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران:164] فذكّرهم بنعمة الدين التي هي أعظم النعم وعنوان المحبة، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب.
ثم قال لهم: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ [آل عمران:165] فذكّرهم بـسوابق نعمة الدنيا وأنها أكثر من مصائب الدنيا، فلئن أصاب فلطالما عافى ولئن أخذ فلطالما أعطى، فله النعمة أولًا وآخرًا.
فالعاقل يستدل بما علم على ما لم يعلم، ويكل الغيب إلى عالمه سبحانه، ويعلم أنه بين يدي رب رحيم الخير كله في يديه والشر ليس إليه..
ثم قال لهم: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران:165] فكيف تتساءلون مندهشين، أنسيتم أنكم في دار الامتحان؟! أم ظننتم ألّا ذنوب لكم تستدعي مصائب الدنيا؟! إن قدرة الله شاملة للنعمة وللمصيبة ولكل شيء، لكن سبب تغير حالكم من النعمة إلى المصيبة هو أنتم، أما الله تعالى فلا يأتيكم من جهته إلا كل خير؛ فلذلك قال: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران:166] فالأمر كله أمره، والقدر بإذنه، فتأملوا في حسن تدبيره الذي من حكمته فيه ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا …﴾ [آل عمران:166- 167] فيظهر الله ما كان في باطن الأولين من الإيمان، وما كان في باطن الآخرين من النفاق، ويظهر شدة الفرق بينهما في الدنيا تمهيدًا لكمال التفريق بينهما في الآخرة.
لذلك حكى الله لنا كيف ظهر نفاقهم ﴿وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ ويبين حقيقة شأنهم ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ والتي لا تخفى على الله ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ [آل عمران:167].
ويحذر الله من وسوستهم للمؤمنين ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران:168] ويبددها بثلاثةٍ قاضية:
الأولى: كذبهم في أن الجُبن يمنع من الموت ﴿قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران:168].
والثانية: فوز من ماتوا في سبيل الله بحياةٍ تفوت كل من يموت ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران:169].
والثالثة: تمني الشهداء لإخوانهم أن يلحقوهم شهداء لتتم للجميع السعادة الأبدية ﴿فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران:170].
وقص علينا ربنا قصة موسى والخضر –عليهما السلام- فبيّن لنا شيئًا من حكَم الغيب المستورة، فقد يكون في مصيبة المال حفظٌ للمال كالسفينة، وقد يكون في مصيبة الأنفس حفظٌ وعطاء كالغلام، وقد يكون وضع المعروف في غير أهله حرمانًا له، وحفظًا له حتى يصل إلى أهله كالجدار، وكم في الغيب من حكمٍ أخرى مستورة!
فالعاقل يستدل بما علم على ما لم يعلم، ويكل الغيب إلى عالمه سبحانه، ويعلم أنه بين يدي رب رحيم الخير كله في يديه والشر ليس إليه، الخلق دائرون بين عدله وفضله، وهو يقسم ذلك بينهم بحكمته وعلمه، منه المبدأ وإليه المعاد له النعمة السابغة والحُجة البالغة، والحمد لله أولًا وآخرًا.
السؤال الصحيح
إن السؤال الذي صدرنا لهذه المناقشة: لماذا يوجد الظلم؟ هو سؤالٌ كليّ، وقد طرحنا مفاتيح كلية للتعامل معه، لكن الشخصية المتأزمة في الحقيقة لن ترى في هذا كفاية؛ لأنها ستولد من السؤال الكلي عشرات ومئات الأسئلة الجزئية، لماذا حصل كذا؟ ولماذا لم يكن كذا؟ ولماذا لي أنا؟ ولماذا في هذا الظرف؟ إلى آخره.
إن الفرار مما عليّ لن يمنحني السعادة أبدًا، فالسعادة تكون بمقدار تحقيق الغاية من الوجود..
وهو ما يعجز أي إنسانٍ بل وكل الناس عن الإجابة الشاملة عنه؛ لأننا لا نملك أسرار القدر الرباني، وقد أجرى الله قدره بعلمه وحكمته..
والفرق بين ذلك وبين علمنا وحكمتنا كالفرق بيننا وبين الله -عزَّ وجَل- فنحن إنما نؤمن بالمعاني الكلية التي قامت عليها الشواهد ونتلمح من التفاصيل ما تطيق طبيعتنا المخلوقة، وهذا يصلحنا ويكفينا.
ويبقى السؤال الصحيح الذي لم نصرّح به في السطور السابقة: ما الواجب علينا تجاه الظلم؟ فإن الإنسان ليس مسؤولًا عن القدر، فالقدر امتحان، لكنه مسؤولٌ عن سلوكه الاختياري تجاهه، وهذا هو محل التكليف، وبه تنقسم الخليقة إلى أشقياء وسعداء.
إن الفرار مما عليّ لن يمنحني السعادة أبدًا، فالسعادة تكون بمقدار تحقيق الغاية من الوجود، وإن الفرار إلى تحميل القدر المسؤولية وكأن المشكلة فيه لن تغير من الحقائق شيئًا، ولن تعفيني من مسؤوليتي الفردية عن تحقيق ما يمكن من الكمال الإنساني في علاقتي بربي وبنفسي وبكل ما حولي.
فالسؤال الصحيح هو الذي يعطي الإجابة الصحيحة، وهو الذي يحل إشكال السؤال الذي قد يخدع البعض أنفسهم به وقد يتأخر البعض عن حلولٍ عملية متاحة لهم بسببه، والمُوفَّق من ألهمه الله صالح العمل.
التعليقات