لا يختلف الناس على أن الدخول في الفقه إنما يكون بعد الدخول في العقيدة، وأن العقيدة في الواقع باعتبار الجملة أصلٌ لباقي الدين، لكننا لا نتكلم عن هذه الاعتبارات المسلَّمة، وإنما نتكلم عن اعتبارٍ آخر هو اعتبار الفهم والتعلم، فهل تحتاج دراسة العقيدة وحسن فهمها إلى دراسة الفقه وحُسن فهمه؟ هذا هو ما يدور كلامنا حوله في ورقتنا هذه.
وحدة منهج الشرع
فإن تشريع الدين كله صادرٌ عن ربٍّ واحد فله منهجٌ واحد وأصولٌ واحدة وقواعد مشتركة سارية في كل أجزائه وفق نفس النظام، وتقسيم معاني الدين إلى عقيدة تُدرَس في أصول الدين وفقه يُدرَس في الشريعة هو تقسيمٌ اصطلاحيٌّ حادث يفيد كغيره مما يشابهه في مجال الدراسة والتخصص، وقد سُمي كتابٌ في الاعتقاد قديمًا باسم الشريعة وهو الكتاب الآجريّ -رَحمه الله-.
ثم إن أدلة الشرع واحدة، وأصول الاستدلال أيضًا واحدة باعتبارها الأدلة المعتبرة دينيًّا وكذلك سبل الاستدلال التي أقرها واعتمدها الدين من خلال مرجعيةٍ كاملةٍ للوحي كمصدر للهداية والتشريع.
الإلزامات القديمة
لقد استثمر علماؤنا من قديم تلك المقدمات السابق ذكرها ليثبتوا لبعض المبتدعين الذين انحرفوا في فهم قضايا اعتقادية أن فهم باقي الدين؛ أي الفقه حُجَّةٌ عليهم تلزمهم بالرجوع إلى الفهم الصحيح الذي عليه جماعة أهل السُّنَّة.
فعندما أراد بعض المبتدعين نفي بعض الصفات الإلهية بدعوى أنها إنما جاءت في أحاديث وليست في القرآن احتجَّ عليهم أئمة السُّنة المتقدمون أن الذين نقلوا هذه الأحاديث هم أنفسهم الذين نقلوا أحاديث الحلال والحرام، فإذا كان الدين تلزم أحكامه بنقلهم فيلزم قبول كل الدين كذلك، وإلّا كان البديل هو الخروج عن ربقة الدين والتحلُّل من أحكامه بالكلية أو قريبٍ من الكليّة.
وعندما أراد بعض المبتدعين تحريف دلالات أحاديث الصفات بشبهاتٍ توهموها وأهواء اخترعوها احتج عليهم أئمة السُّنة بأنّ ذلك يفتح باب تحريف أدلة الأحكام ذلك وهو ما اتفقت الأُمّة على منعه وعلى اتهام من فعل ذلك من الباطنية في دينه؛ بما يلزم المخالف الذي يريد الحفاظ على دينه أن يغلق باب التحريف في كلٍّ من الفقه والعقيدة جميعًا.
بل إن الإمام ابن القيم -رَحمه الله- عندما كان يناقش نفاة الحكمة والتعليل في باب القضاء والقدر، قال: إن كلام هؤلاء لا يتفق مع نهج الفقهاء بحال؛ فهم إن تكلموا بلسان الفقه فلا بد أن يراعوا التعليلات وبناء الأحكام عليها، والحكَم المقصودة من الأحكام الشرعية ولا يمكن أن يتكلموا بلسان علم الكلام الذي سلّطوه على أبواب العقائد فنفوا بسبب أوهامهم فيها حكمة الله وتعليل فعله -عزَّ وجَل-، فلو فهموا العقيدة كما يُفهَم الفقه لكان أهدى لهم سبيلًا.
سرُّ المسألة
إن دراسة العقيدة تملؤها كثيرٌ من مسائل الاعتقادات القطعية، كما أنها بطبيعتها تشيع فيها الأحكام المطلقة؛ إذ أنها تتعامل مع القضايا ولا تتعامل مع فقه تنزيل الأحكام، بينما تمتلئ دراسة الفقه بالتفاصيل العملية وبطرح الاحتمالات والاعتبارات الواقعية، وبالترجيح بين الاحتمالات والمآخذ، وبضبطه في تنزيل الأحكام على الوقائع والأشخاص، والفقه بطبيعة اشتغاله بأعمال المكلّفين التي يلابسونها يكون أقرب إلى تصورات المسلمين، كما أنه يكون أكثر مرونةً في التعامل مع واقعهم مما يفيد في تكوين فهمٍ أقرب إلى الصحّة عن حقائق الدين وكيفية تنزيلها.
وكثيرٌ من الخلل لدى الغلاة من المعاصرين يأتي من تمسكهم بمبادئٍ ومجملات من العقيدة دون تكوين رؤية من تفاصيل الفقه مما يؤدي إلى انحرافاتٍ في تنزيل الأحكام على الأحداث وعلى الأعيان، وإلى تسرُّعٌ في التكفير دون ضبطٍ ولا استفسار مع أن باب الردة وأحكامها إنما يوجد في كتب الفقه لا في كتب العقيدة، كما أن الإفتاء والقضاء مختصٌّ بالفقهاء دون غيرهم.
الهدف المطلوب
إننا نريد بهذه الكلمات أن نأخذ بيد المتوجه إلى دراسة علوم الشريعة عامة ودراسة الاعتقاد خاصة ممن لهم صفاتٌ تؤهلهم لتحصيل العلم وظروفٌ تعين على ذلك أن يهتموا بدراسة الفقه بجوار العقيدة؛ لأن ذلك سيفتح لهم آفاقًا من الفهم لمنظومة الدين في تشريعه وتمييزًا لرتب أحكامه، وضبط مناطات تلك الأحكام مع واقعيةٍ رشيدة في كيفية تنزيل الأحكام على الوقائع والأعيان.
ولا يعني هذا بأي حال عدم إشاعة مبادئ الدين لعموم المسلمين سواءً أكانت مبادئ اعتقادية أو فقهية فإن العوام لا مدخل لهم في الاجتهاد ولا في تنزيل الأحكام، بل مرد ذلك إلى أهل العلم كما أمر الشرع الحكيم.
التعليقات