اعترض البعض على تسمية (الفكر الإسلامي) باعتبار ذلك نوع من جعل الإسلام (فكرا) أو (أفكار) قابلة للأخذ والرد!!
واعترض البعض الآخر بسؤال استنكاري: كيف يصح أن يكون الإسلام ومصدره الوحي (فكرا)؟! والفكر هو ما يفرزه العقل، فلا يجوز بحال أن يكون الإسلام مظهرا للفكر الإسلامي..!
وفي الحقيقة فإن العجب ليس في استنكار هذا الاصطلاح؛ وإنما العجب أن في تضاعيف أقوال المستنكرين ما يؤكد أهليتهم لفهم الاصطلاح، فما الذي حرفهم عن فهم الاصطلاح وتفسيره تفسيرا صحيحا، بل وقبوله، إلى هذا الفهم السقيم؟!
فهو ليس فكرا مطلقا، ناتج عن التصور البشري المحض؛ بل هو فكر (مقيد) بأصول وقواعد علمية، تستند على ما ثبت في هذا الدين المخصوص، وهو الإسلام…
على كل حال، دون الدخول في محاولة الإجابة عن السؤال السابق، فهو متروك لموضعه، ولا يستحق في كل الأحوال عناء الرد، لكن المؤكد أن الاصطلاح حادث بهذا المعنى، ولم يكن له مثيل بهذا الاستعمال، والعلوم الجديدة التي نشأت لدى الإسلاميين كثيرة ومتعددة، فلا مجال لعدم قبول العلوم الجديدة وتسميتها باصطلاحات محدثة، طالما لا تخالف الأصول العامة، والقواعد العلمية، لا سيما إذا كان موضوع هذا العلم مبثوث مفرق، وأن المقصود هو لم شعثه، وجمع متناثره، وتجنيس فروعه، ومن أمثلته علم أصول الفقه على ما لا يخفى.
والفكر هو إجالة النظر، وهو كما ذكر المعترضون والمستنكرون نتاج بشري، يحتمل الخطأ والصواب، فهو نوع من الاجتهاد، لكن تقييد المضاف (الفكر) بـ(الإسلامي) يؤكد على الانتقال من الدائرة الأوسع إلى الدائرة الأضيق، فهو ليس فكرا مطلقا، ناتج عن التصور البشري المحض؛ بل هو فكر (مقيد) بأصول وقواعد علمية، تستند على ما ثبت في هذا الدين المخصوص، وهو الإسلام، فهو إذا نتاج بشري يحتمل الخطأ والصواب، لكنه محاولة للاستنباط المستند إلى الإسلام ذاته.
وهذا الأمر ليس ببدعًا، أو من الغرائب في تراثنا الإسلامي، فعندما تقول (الفقه الإسلامي) فإنما تعني فهم النص الشرعي فيما يتعلق بأفعال المكلفين، لوصفها وتكييفها بالوصف المناسب لها من حيث الحل والحرمة وتوابعهما، وهذا (الفهم) يحتمل الخطأ والصواب، وبدليل الاختلاف الفقهي، ووجود المذاهب الفقهية، على الراجح من أن المصيب واحد في نفس الأمر، وأنه ليس كل مجتهد مصيب في نفس الأمر، وإن كان كل مجتهد مأجور، ما اتبع الأصول العلمية للاجتهاد.
وعلى هذا فإن اعتراض المستنكِر يحتمل منه أنه قام بالخلط بين الثابت والمتغير في تراثنا الإسلامي، فالنص ثابت معصوم، وفهمه متغير محتمل، وقد يتدرج الفهم من ضعف لقوة من الداخل بحسب استناده إلى النص، وقربه منه، وصيرورته إليه، ففرق بين الفهم النص والفهم الظاهر، ويتدرج أيضا من الخارج بحسب الاتفاق عليه، من الجمهرة إلى الإجماع، فإذا ثبت الأخير؛ ثبت لهذا الفهم العصمة، لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة.
فلا بدعية في الاصطلاح، ولا هو مما يسم نفسه بالعصمة نتيجة انتسابه للإسلام، ولا يدعي أحد هذه العصمة، وإن ادعاها فهو مخطئ محارب بلا شك، ويعامل معاملة من شذ في بعض العلوم الأخرى المقبولة.
إذًا فقد أُتي المعترِض من قِبل نفسه، ومن قِبل خَلْطه، وليس من قِبل الاصطلاح، أو الممارسة العملية لمن انتحل هذا الاصطلاح، فلا أحسب أن أحدهم ادعى أن (فكره) الإسلامي معصوم، بل يفترض فيه الرجحان، لأنه يعتقده، ولا يمكن أن يعتقد مرجوحًا، وقد يدعي فيه الصواب المطلق أو العصمة إذا ما اقترب من النص الشرعي بحيث يكون قد اتحد معه بالفعل أو بالقوة، وأن التعبير عن النص بلفظ معاصر أو حديث غير مؤثر في عصمة الفكرة أو الفهم.
والفكر الإسلامي – على هذا – علم واسع يدخل في معارف شتى، لكنه في المقابل له ذاتية تميزه عن غيره من العلوم، وإن كان يتداخل معها في سمات وقسمات، فهو يتداخل مع الفقه، لكنه لا يخوض فيه خوض الفروعي والفقيه، ويتداخل مع العقيدة، لكنها لا يتناولها بطريقة علماء التوحيد أو الكلام، ويقترب من طريقة أهل المقاصد، ويستعمل عموميات وكليات المقاصد في توظيف الفكرة التي ينتحلها، ويضع الأطر العامة لنظريات اجتماعية واقتصادية، ويرد على المخالفين من أهل المذاهب المخالفة والشاذة، وأهل الديانات الأخرى، والأيدولوجيات البشرية، فهو بهذا علم تأصيلي هجومي، ودفاعي، وللقائم عليه أو المتلبس به أن يتكلم في بعضه أو كله بحسب اختصاصه وقدرته.
فهذا العلم يؤصِّل لنظرة جُمَلية كُلية عن علوم فروعية، وضعا لأطر عامة لها من الخارج، بحيث يظهر محاسن هذه العلوم، وتآلفها، وتكوينها فيما بينها لوحدة وكيان واحد، تضطرد أصوله وقواعده، حتى وإن اختلفت العلوم التي يؤصل لها، وهي من مناقب هذا العلم وحسناته، فضلا عن أن الأفكار والأيدولوجيات المعاصرة كانت تصول وتجول في فضاء بغير مبارز، وبغير كاسر لشوكتها، وكأنها احتكرت هذا المجال، وتغرد فيه منفردة، بالرغم من وجود هذه الكليات في فهوم الإسلاميين قديما وحديثا، لكنها كانت تحتاج إلى جمعها وسبكها، فضلا عن تصويرها بلباس معاصر وآلية مفهومة لمرتاد هذا المجال.
فلا بدعية في الاصطلاح، ولا هو مما يسم نفسه بالعصمة نتيجة انتسابه للإسلام، ولا يدعي أحد هذه العصمة، وإن ادعاها فهو مخطئ محارب بلا شك، ويعامل معاملة من شذ في بعض العلوم الأخرى المقبولة.
التعليقات