تفكيك “الأسواني”

راسلني بعض الأخوة للرد على مقال د.علاء الأسواني “قبل أن تقطعوا أيدينا”، ويبدو أن هذا الطلب العام قد وصل لعدد من الإخوة الأفاضل فوجدت عددا من الردود،ولقد أجاد الأخوة في المناقشة الجزئية لما أثاره الأسواني، ولي تعليقات أضيفها على ما تفضلوا بطرحه:

أولاً: المقال ركيك في بنيانه الفكري ولا يعدو جمعاً لشتات الشبهات والتخويفات والإشكاليات التطبيقية تحت عنوان استفزازي لا يعبر عما تحته إلا إذا كان يعتبر نفسه جزاءً من الأفباط الذين ناقش المقال حقوقهم

ثانياً: الفصل المكرور بين الشريعة الإلهية والاجتهادات الفقهية ، هو إجراء احترازي حتى لا تظهر حقيقة العداء للشريعة نفسها ، وهو جزء من طرح عام يُخرج الشريعة من خصائصها..
فبدلاً من كونها ربانية محفوظة بحفظ الله يجعلوها بشرية يعتريها الخطأ،
وبدلاً من كونها سبيل لتناسق المنطومات السياسية والاقتصادية والجنائية والاجتماعية بدلا من التناقض والتضاد فمنظومة تحفز على الشيء وأخرى تسعى لمنعه، يجعلوا الشريعة مثالا للتناقض والتضاد،
وبدلا من كون الشريعة سبيل لتوحد الأمة ووضوح رؤيتها وعلاقتها مع العالم فهي محل خلاف وسبيل فرقة وسبب تمزق الوطن ،
والشاهد أن هذا محور عام في طرح الأسواني وغيره وهو تغيير حقائق الشريعة ومسخ صورتها ،
والسؤال الذي نطرحه عليه ما دامت المشكلة في اجتهادات القرن العاشر وليست في أصل الشريعة الربانية فلماذا الدعوة إلى تنحية أصل الشريعة ورفض مرجعيتها ؟!
وهل توافقون على اجتهادات مجامع فقهية حديثة تأخذ برأي المتخصصين في كافة العلوم؟!
وهل تقبل إذا حذفت المادة المزعجة التي ترجعنا للقرن العاشر ـ كما تزعمون ـ واستبدالها بمادة تمنع أي قانون يخالف الشريعة الإسلامية ـ أي جعلها حاكمة في النفي لا الاثبات ـ؟!
كل هذه الصور وما هو أشد تنازلا مرفوض لأن المعركة الحقيقية هي مع أصل المرجعية وليس تطبيقاتها ، بل هو مع أصل العقيدة الإسلامية ومع الله ورسوله ، فالله عزوجل هو القائل [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ولكن الأسواني يعتذر للمواطن القبطي لوصفه بالكافر ويتعلل أن هذا كلام البشر من الفقهاء!!! ، فزعم البشرية ليس إلا غطاءً للطعن في الشريعة كأصل ومرجعية ووحي وأتحداه أن يقدم طرحا حقيقيا يسعى لتفعيل الشريعة الربانية.
ويحضرني هنا كلام الشيخ سيد قطب في “هذا الدين” عن كونه منهجاً للبشر ، ففي الحقيقة أن هذا الدين رباني لكن من يحمله هم البشر والمطالبة بالفصل بين البشر الحاملين والمنهج المحمول هو إزاحة للمنهج أو مطالبة بنزول الملائكة بين البشر !

ثالثاً: تقديس فكرة المواطنة وعقد الولاء والبراء عليها، والمواطنة في الأدبيات العلمانية هي التساوي الكامل المطلق بين المسلم والمسيحي ولربما جعلوا للمسيحي فوق المسلم بزعم حق الأقلية في الضمان فيجعلون له حقين حق المواطنة والمساواة الكاملة ثم حق الأقلية في ضمانات من الأغلبية رغم أن مفهوم المواطنة يُلغي مفهوم الأقلية، ولكن لا بأس في ظل الفوضى الفكرية والتبعية الفراغية أن يقولوا الشيء وضده ،

ومشكلة هؤلاء أنهم ابتداءً لا يؤمنون أن ما سوى الإسلام من الأديان باطل ، وهذا أصل هذا النزاع ، فهم يؤمنون أن الأديان كلها سواء وأن المسيحية قد تكون هي الحق وليس الإسلام وهذا مناقض للقرآن وليس لكلام البشر فالله سبحانه هو من يقول [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ] ، وترجع محورية هذه المسألة في أن الانطلاق من أصل أن الإسلام هو الحق وأن ما سواه باطل ينبني عليه عدة نقاط منها أن حماية العقيدة ونشرها هو رسالة وأن تضييق حريات الكفر والطعن في الثوابت هو حماية للحق ، وأن وضع السياسات والقوانين بما يقوم على هذا الأصل الفكري والعقائدي مقبول ، ففرنسا التي تعتبر النقاب مثلاً ثقافة مغايرة أو تهديد للثقافة الأصلية تحركت مباشرة لمنعه ، فمنطلق أن الإسلام يمثل الحق وسواه الباطل فيصل في غالب الترهات المخالفة وتراجع الإسلاميين عن هذه العقيدة سبب كل التنازلات ، وهذه العقيدة منذ أربع عشرقرنا وجميع المخالفين يعجزون عن نقضها ، وجميع المناظرات تثبت بطلان عقائدهم وتهاويها، وعلى ضوء يكون ما أعطاه الإسلام للذميين ووفره لهم وكفله من حقوق، مع التوصية بالبر لهم وهو صورة غير مكررة في التعامل مع تهديد أو مغايرة ثقافية لمنظومة الدولة.

أما تسويق المواطنة كمفهوم مقدس تحت غطاء الفتنة الطائفية فشبهة تحتاج إلى تفكيك؛ فالمواطنة فكرة والفتنة الطائفية إشكالية واقعية ، والإشكالية الواقعية تتعدد الحلول لها فلا تكفي سندا لبناء فكرة،
ولو ناقشنا الفكرة “المواطنة” بنفس منهجه لتساءلنا: لماذا يكون للمسلم الفلسطيني حق أقل من المسيحي المصري، ولماذا تفرض المواطنة علي ألا أتدخل لمساعدة أخي المسلم في البوسنة أو بورما و تجعل المسيحي المصري ذو حق فوقه؟!، ومن المستفيد من تفتيت أمة ذات عقيدة واحدة، ولماذا تسمح أمريكا لنفسها أن تناصر الأقليات المسيحية فقط في العالم بينما تمنع فكرة المواطنة المسلمين من المثل؟!، أليس هذا يدل أن فكرة المواطنة فكرة تحييزية وقائمة على اعطاء المسيحي حق أكبر من المسلم ومنع المسلم من بعض حقوقه وهي مناصرة أخوه المسلم ؛ وأن المواطنة تستلزم تنحية الدين بهذا المفهوم؟!
كما أننا لابد أن نتساءل هل مفهوم المواطنة الذي يتم طرحه و تسويقه بزعم احترام النفس البشرية الإنسانية والتساوي على أصل الإنسانية هو مفهوم مضاد للفهم البشري أم للقرآن والسنة المليء بأدلة بتفضيل المسلم على غيره في الحقوق؟!،
وهل المطلوب احترام إنسانية المسيحي وحفظ حقوقه أم استهداف اعتزاز المسلم بانتمائة للإسلام وشعوره بالأفضلية لهذا الانتماء ؟!،
أما احترام إنسانية وحقوق المسيحي فلا تستلزم أن اعتبره مساوياً للمسلم في كل شيء ، فيمكن أن اعتبر المسلم أفضل ثم أؤدي لغيره الحقوق ، فربط المسائل والقضايا معا تحت كلمة المواطنة وإما نقبلها كما هي وإما نتهم باستباحة الحقوق وإهدار الإنسانية أمر مرفوض ، وتفكيك الطرح أمر لا بد منه لأن الشبهات تتمحور حول قيمة صحيحة يتم إدخال الباطل معها.
ثم لماذا الكلام الدائم على المواطنة من اتجاه واحد، أليست المواطنة ذات اتجاهين، فهل رفض الكنيسة الرقابة المالية على التمويل الخارجي من المواطنة؟ وهل الكلام أن مصر مسيحية وأن الإسلام وافد من المواطنة؟ وهل طلب الدعم من أمريكا وإسرائيل من المواطنة؟! وهل قتل وفاء قسطنطين وعدم محاسبة قاتليها من المواطنة؟! بل هل الكنيسة تعتبر المسلم ـ أصلاً ـ مثل المسيحي ، هل تؤمن أن لهما نفس الحقوق .. هل تؤمن بإنسانية المسلم ؟!!…
هذه الأسئلة تجعل الطرف المطالب بإجابة سؤال المواطنة هم الأقلية لنعرف مدى قبولها به وانتماءها له ، بخلاف الشريعة التي تنص على حقوق الذميين بصورة غير موجودة في أي شريعة أو قانون آخر..

رابعاً: التوجيه الغير نزيه للفتاوى والأقوال والتقزيم الدائم للشريعة والسعي في حصر البحر الزاخر في تصوره الخاص لبعض ما فيه ـ وليس فيها ما يعيب وإنما العيب في اجتزائه وتوجيهه المختل ..
ومثال ذلك الفتاوى التي ساقها في عدم قبول شهادة الذمي على المسلم فهي لم تنطوي على ذكر أن السبب كون المسيحي ليس إنساناً أو ناقص الأهلية ، وهذا ليس في كلام الفقهاء عن الحكمة من هذا الاجتهاد.
ولعل الحكمة هنا أن الشريعة تعتبر درء الحدود بالشبهات مقدماً ، والمواطن المسيحي دينه يجيز له الكذب ويبيح له مال المسلم، فكان حقن دم أو يد مجرم خير من فتح الباب لاتهام أبرياء بلا ذنب ـ والله أعلم ـ ..
كما ان هذا الأمر ليس خاصا بالمسيحي بل الشيعة المشهور عنهم الكذب لا تُعتبر شهادتهم ، وكذلك الفاسق المعروف بالكذب..
فلماذا لا نضرب مثالا آخر وهو أن مجموعة من المسيحيين المتطرفين ـ في صيدلية ـ قرروا الكذب على أحد المسلمين للتخلص منه؟!
ثم هل هذه المناقشة ـ من الأساس موضوعية ـ حتى يتم جرنا للمهاترة فيها ؟!
بمعنى: هل هذه الأمثلة التي ذكرتها موضوعية في عرض الشريعة أو أحكام الذميين فيها؟! أم هي تعميم مخل لبعض الآراء في بعض المذاهب في تعامى عن أصل عظيم وهو الرقابة المجتمعية،كأن السلفيين والإخوان سيفعلون ما يريدون فلا مجتمع ولا مؤسسات ولا مجامع فقهية وقانونية ، فالخلاصة أن يتم حصر المشروع الإسلامي في المذاهب الفقهية ثم حصر المذاهب الفقهية في الآراء الشاذة ثم هدم المرجعية كلها لننتظر شذوذات القانونيين الأفحش لتكون بديلاً .
أليس القانون الوضعي الحالي يجعل الزاني الذي يزني بزوجة رجل ثم يقتله بريئاً من باب الدفاع الشخصي؟!! ، أليس هو من يقرر مبدأ “الأمر الواقع” إذا وضع أحدهم يده على أرض ثم ثبت أنها ملك لآخر، فيظل صاحب الأرض ينتظر السنوات بينما من وضع يده على أرضه حائزاً لها؟! ، هل ستقول لا تقزم القانون في هذه المسائل؟!
وهل مقالك إلا هذه الصورة الركيكة التي لا تناقش نظاماً ولا مرجعية ولا فكرة وإنما تجتزأ كلاماً ـ قد يكون صواباً إذا وُضع في منظومته المتكاملة ـ ليكون هو المنظومة أمام من لا يعرفها؟!
ويكفي دلالة على هذا الاجتزاء المقصود عنوان المقال الذي لا علاقة له بالمقال من قريب أو بعيد إلا أنه بدلا من أن يسميه “قبل أن تطبقوا الشريعة” أصابته الحيرة في العنوان المناسب فلم يجد إلا هذا العنوان ليتسق مع هدف المقال ومنهجه القائم على رسم صورة مشوهة تجمع بين الدم والظلم والفتنة والتمزق ثم الصدام وتقديمها للقارئ المحمل مسبقاً من الإسلاميين ..
ولقد أفاض الإخوة في مناقشة تفصيلية للأمثلة فلا أكررها ، خاصة أنه ليس المقصود من تفكيكي لمقاله..
خامساً: الفتنة الطائفية ، المجتمع المصري يميل إلى رفض الاستقطاب، مع السماحة والطيبة والشهامة ، و الميل للتعقل وحل المشاكل بسلمية ، تجعل كلمة “الفتنة الطائفية” أشبه بشيطان أسود يخرج على هذا المجتمع ليقول له الحرب على الأبواب وتقسيم مصر سيتم تنفيذه والعالم سيحارب مصر … صورة سوداء يتم استحضارها دائماً في أي نقاش عن الشريعة
وعند التدقيق نجد أن هذه الكلمة لها ضجيج بلا طحين ، وأنها ذات استخدامات مختلفة إلا توصيف الواقع، وأن الإسلاميين هم أبعد فئة عنها رغم أنهم أكثر من يتهم بها ..
فالمسيحيون نادراً ما يستخدموها في كلامهم ، وأغلبهم يخاف منها ويراها شرا ووبالا عليهم، بخلاف قلة متطرفة تحاول الظهور بمظهر البطولة أمام مجتمع مغلق يميل لعقدة الاضطهاد منذ قرون، هذه القلة المتطرفة تحاول الاستفادة من الطرح العلماني والدعم الأمريكاني لتحقيق مكاسب مالية وسياسية ، والفتنة الطائفية تهدد مشروعها كاملا بالفشل ، لأنه قائم على تحقيق انجازات بالكلام دون تهديد حقيقي لمصالح المسيحيين ، وأي تهديد بسببهم للمسيحيين سيتسبب لهم في اشكاليات لا حصر لها..
أما العلمانيون فأكثر من يستخدمها حيث يقوم الطرح العلماني على أصل فكري هو أن المرفوض هو الاجتهاد البشري وعلى سند واقعي وهو أن الشريعة ستشعل فتنة طائفية ، ولذلك يميل العلمانيون في الدول التي يصعب اعتبار الفتنة الطائفية سندا واقعيا إلى استحداث أي فرقة أو ديانة وهمية للاستناد إليها واقعياً ، وهذا له دلالة لابد أن نقف معه ولا يصح تجاوزها وهي أن العلمانية منبتة عن المجتمع المسلم فهي دائما تبحث عن سند واقعي مغاير تتكلم باسمه لتتطالب بتنحية الشريعة ، والحل الوحيد عندهم للفتنة المزعومة هو الانسلاخ الكامل من الإسلام ، فتدريس الدين في المدارس وبداية البيانات بآيات قرآنية بل حتى صوت الآذان في الآرجاء يقلق الأقلية وقد يسبب فتنة طائفية!!
أما الغرب بزعامة أمريكا فيستخدمها من قبيل التدخل والهيمنة، ولا شك أن التهديد الغربي تهديد حقيقي للمشروع الإسلامي وهو التهديد أو العقبة الحقيقية الوحيدة في مقال الأسواني، ولكن هذا التهديد يشهد تراجعاً بعد أحداث 11 سبتمبر وخسائر العراق وأفغانستان وبعد الثورات العربية والتي كان من أهم أسباسبها اتهامها بالخيانة لصالح أمريكا ، مما يجبرها على خفض سقف ما تقبله كما يجعل الحلول المطروحة محدودة مثال ذلك ما شهدته مناظرات انتخابات الرئاسة الأمريكية من نقاش حول فرض العقوبات الاقتصادية على مصر ، وهو ما تم الرد عليه أنه سيضر بمصالح أمريكا أكثر مما سيضر مصر ،
كما أنه يدفعنا للتساؤال : ألا يستحي العلمانيون أن يدَّعوا الوطنية والكلام عن الوطن والاعتزاز به والموت من أجله ثم يطالبون بالاستجابة لاحتمال ضغط خارجي وتنحية هوية الدولة ومرجعيتها بالكامل؟! ،
هل هذه وطنية أم تبعية وتركيع للوطن أمام هيمنة الغرب ؟! ،
ولا يفوتنا أن في كل بلد دخله المحتل الأمريكي كان النخبة المساعدة علمانية والفئة المناضلة إسلامية ،
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل


التعليقات