علم الافتراض الاستراتيجي

الأصل أن تُبْنَى الرؤيا على حقائق واضحة، لكن عندما تنعدم هذه الرؤيا سواء لعدم الشفافية في الدول الشمولية والعسكرية، أو بسبب استراتيجي حفاظًا على أمن وسلامة دولة أو مجموعة من المجموعات؛ فلا شك أن الـمُحَلِّل لا يمكن له أن يتوقف عما يُتاح له من معلومات يقينية، بل لابد من وضع افتراضات مَبْنيَّة على فروع وأجزاء الصورة، حتى يمكن افتراض وتَوَقُّع ما يمكن أن يكون قد حدث فعليًا..

ولأن المخابراتي والسياسي مجاله هو العمل الفعلي، والنتيجة لاتخاذ قراراته بناء على السيناريوهات المفترضة منه تعود عليه مباشرة؛ فإنه يكون أكثر دقة وموضوعية من الصحفي، الذي قد يلجأ في بعض الأحيان لافتراض سيناريوهات جاذبة للقارئ..

ويقوم بهذا الافتراض عدد من رجال المجالات المختلفة، فمن رجال المخابرات، إلى السياسيين، إلى الصحفيين، وغيرهم، ولكل طريقته وآلياته، وأهدافه في هذه الافتراضات، فالمخابراتي تفترض السيناريوهات في نفس الوقت الذي يسعى فيه إلى حقيقة الصورة الكاملة، وتُبْنَي هذه الفرضية على ما يصله من معلومات يقينية جزئية، يتم تجميعها مع بعضها للوصول لأقرب الفروض، وفي نفس الوقت يسعى إلى الحقيقة الكاملة، وقد يسعى إلى الحقيقة الجزئية التي تؤكد مقدمات الافتراض، أو تقوم مؤسسته بعمليات جزئية لتأكيد أو نفي هذا الافتراض.

والسياسي يقوم بنفس الفعل في ظل ما يصله من معلومات من جهاز مخابراته، إن كان سياسي يتولى منصب رسمي، أو ما يصله باجتهاده من معلومات، بحسب مصادره، ويقوم كذلك بتَلَمُّس وتَوَقُّع وافتراض السيناريوهات الخفية عنه..

وأما الصحفي فإن هدفه هو الوصول إلى (تقرير) أو (تحقيق) يقوم فيه بمحاولة تجميع الصورة وافتراض ما خفي على المتلقي أو القارئ..

ولأن المخابراتي والسياسي مجاله هو العمل الفعلي، والنتيجة لاتخاذ قراراته بناء على السيناريوهات المفترضة منه تعود عليه مباشرة؛ فإنه يكون أكثر دقة وموضوعية من الصحفي، الذي قد يلجأ في بعض الأحيان لافتراض سيناريوهات جاذبة للقارئ، سيناريوهات تفتقد للموضوعية، لكنها تحقق هدفه، وهو الوصول إلى أكبر عدد من القراء، والبعض الآخر من الصحفيين له توجه موضوعي متوازن، يتحلى فيه عن شهوة سحب القراء لموضوعاته، هذا بافتراض عمل المخابراتي والسياسي بمهنية وموضوعية، وأن يكون هدفه هو الوصول إلى الحقيقة، لا أن يكون هدفه هو التسويق لأمر يخرج عن نطاق وهدف بيان الحقائق.

إذًا فالافتراض ووضع السيناريوهات ليس خطأً في ذاته، وليس من قبيل نظرية المؤامرة، وليس من قبيل الرجم بالغيب… لكنه قد يكون كذلك بحسب الآليات التي يتبعها واضع الفرضية أو السيناريو، وبحسب الهدف الذي وضعه أمام عينه..

إذًا فالافتراض ووضع السيناريوهات ليس خطأً في ذاته، وليس من قبيل نظرية المؤامرة، وليس من قبيل الرجم بالغيب… لكنه قد يكون كذلك بحسب الآليات التي يتبعها واضع الفرضية أو السيناريو، وبحسب الهدف الذي وضعه أمام عينه، فهل الهدف هو الوصول إلى الحقيقة التي خفيت عليه وعلى متلقيه؟ أم الهدف هو مجرد الإثارة؟ وهل بَنَى فرضيته على فروض أخرى متوهمة، فتتسلسل الفرضيات والأوهام والظنيات، وقد يصيبها الدور، فيتوقف صحة بعضها على صحة الآخر، فلا تثبت صحة البعض إلا بصحة الآخر، والأخير لا يثبت إلا بثبوت الأول! أو تكون هذه الفرضيات مبنية على جزئيات حقيقية يقينية، وأن السيناريو النهائي هو ما يجمع هذه الفروع والجزئيات ليكون الصورة التي قد لا تجمع جزئياتها إلا هذا السيناريو أو الافتراض؟ وهل يقوم بعمل اختبارات لهذا الافتراض، ومراقبة الحوادث اللاحقة لتأكيد أو نفي افتراضه؟ وغير ذلك من أسئلة واختبارات مبدئية لإكمال الفرضية…

ومع ذلك فإن هذا (العلم) لا يعتمد فقط على الموارد المعلوماتية الجزئية، والقدرة على التجميع، واختبار الفرضية اختبارات علمية لنفي أو إثبات أو تغليب هذا الفرض أو ذاك؛ بل يعتمد أيضا على وجود (مَلَكَة) أو صَنْعَة لدى هذا الـمُفْتَرِض، فمن الممكن أن تتوفر كافة الإمكانات العلمية والقاعدية للوصول إلى السيناريو، لكن نجد أن المنتج من المعالِج لها منتج سطحي، يفتقد للإبداع والعبقرية، وهنا قد يختلف مخابراتي عن آخر، وسياسي عن آخر .. وصحفي عن آخر، وكُلما صحت الافتراضات التي يضعها كلما غلب على الظن أنه صاحب ملكة في هذا المجال، مع الحذر من المجازفة في هذه الافتراضات عند صحة بعضها، فيتجرأ على افتراضات بعيدة، أو غير متوافقة مع أصول العلم وسؤالاته المفترضة، والإشكالية الثانية اغتراره بفرضياته، وإخراجها من حَيّز الافتراض إلى الحديث عنها باعتبارها يقينيات غير قابلة للعكس، وهذا من آفات هذا العلم، نظريًا وتطبيقيًا.

إن الحاجة لجهود متخصصين في هذا العلم، أفرادًا وجماعات، ممن لديه الرؤية الشاملة، والقدرة على افتراض سيناريوهات تجمع أجزاء الصورة، واختبارها من وقت لآخر، وعرضها على الآخرين للتفاعل وإبداء الرأي؛ حاجة ملحة وجوهرية، فهي من أولى الخطوات التي تحتاج إليها الدول والجماعات لاتخاذ ردود الفعل المناسبة، ووضع الخطط الدفاعية أو الهجومية لها، وعدم الاعتماد على مجازفات البعض، مع عدم الحط من شأن أهل الافتراضات الاستراتيجية، ومطالبتهم (بالدليل) اليقيني على السيناريو الشامل، وشغلهم بفرعيات هم لم يدّعوها، ولم يلزموا الآخرين بها، لكنهم يضعون تصورًا لما هو مخفي أو غيبي، دون تَكَلُّف وضع حلول أو افتراضها، فقد يكون لوضع الحل رجاله، بعد صفاء الافتراض.


التعليقات