الهيمنة الأمريكية على مصر بعد الثورة (1)

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

بدأت الهيمنة الأمريكية على مصر منذ عقود ووصلت لأسوأ صورها في عهد مبارك حتى تغلغلت في كافة مفاصل الدولة ، فلا عجب أن الإدارة الأمريكية لا تزال لاعبا قويا على الساحة المصرية ـ إن لم نقل أنها اللاعب الأقوى ـ ، وهذه الهيمنة وراء غالب تعقدات وإشكاليات الواقع المصري وكسرها والخروج من بوتقتها هو المطلب الحقيقي والحل الوحيد لإنجاز مطالب ثورة 25 يناير..

والهيمنة الأمريكية ليست ـ كما يحاول البعض التصوير ـ سياسية فقط ، بل منظومة الهيمنة الأمريكية تستند على ركيزة فكرية وإقتصادية تضمن لها الاستمرارية والتغلغل وصعوبة الخروج عليها ، يقول أ.د.حامد ربيع ـ رحمه الله ـ : (اليوم هناك أسلحة أكثر فتكاً وأقل تكلفة: أسلحة نفسية تواضع العلماء على تسميتها بكلمة الغزو المعنوى، هذا هو مفهوم الاستعمار الجديد، هذا المنطق تختلف أساليبه، أو بعبارة أدق تختلف فلسفة التعامل بخصوصه، فالمنطق الفرنسى يدور حول خلق التبعية من المنطلق الحضارى، ومن خلال زرع كلمات الفكر الفرنسى.

الروسى يفضّل منطق الولاء والقناعة الأيديولوجية، وهكذا تصير الاشتراكية والعدالة، الاشتراكية والمساواة بين الشعوب رداء فضفاضاً يستتر خلفه منطق التغلغل، وخلق التبعية المعنوية.

الأمريكى ابتدع مفهوم التنمية وأسلوب الحياة الأمريكى، هو يجمع بين عنصرين كل منهما يكمل الآخر: عنصر القناعة الفكرية بالتنمية وما ينطوى تحتها من مثاليات، بحيث تستوعب فى نظام القيم القومية من جانب، ثم عنصر الممارسة والحياة الواقعية من خلال تقديم نموذج الوجود الأمريكى، على أنه المثل الأعلى فى العالم المعاصر للمجتمع المثالى، وهو يسعى بهذا المعنى لخلق التبعية السلوكية أولاً من جانب الجماهير، وثانياً التبعية الفكرية لتلك المتعلقة بالفئة المختارة، وذلك دون الحديث عن التبعية المصلحية للفئات المنتفعة) (1)

فالجانب السلوكي الإجتماعي للجماهير والتبعية الفكرية للنخبة من ركائز الهيمنة الأمريكية التي قد لا تجد من يعترض على وجودها ولكنك ستجد من يماري ويجادل وينافح عن كون الليبرالية بأذرعها الثلاثة : السياسية والاقتصادية والاجتماعية ليست إلا واجهة الهيمنة الأمريكية، بل قد يصل الأمر إلى حد التراشق واستدعاء ألفاظ “الظلام” و “الانغلاق” و”الرجعية” و “التحجر الفكري” ، بالرغم من أن هذا الطرح ليس بدعةً سلفية أو أصولية أو حتى إسلامية بل هو طرح يتداوله مفكرون وكتاب فرنسيون وأمريكيون!!، فالمفكر الفرنسي روجيه جارودي يقول:
(العولمة هي عبارة عن شكل للاتحاد العالمي أو لنقل الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة . عندما كانت انكلترا أكبر قوة اقتصادية في العالم اقتنعت بأن السوق الحرة هي الوسيلة الفضلى للهيمنة على أبناء مستعمراتها الذين كانوا يحاولون التحرر تماماً مثل الولايات المتحدة التي رفعت منذ نشوئها الأول قانون “التبادل الحر” لأنه من خلاله يتمكن الأكثر قوة من التهام الأقل ضعفا، وهناك من قال بنظرية “الثعالب الحرة بين الدجاج الحر” أي الساحة الحرة التي تتيح لأحدهم أكل الآخر ، إن نطرية العولمة الأمريكية هي الهيمنة، وهكذا تعمل الولايات المتحدة على سن قوانين تريد تطبيقها في العالم بأكمله ، …….، فلقد أوضحت مدام “سوزان جورج” فيك كتابها المعنون “غارق في الديون” وهو كتاب عن الديون تشرح أن نموذج التطور في الغرب الذي يكرس قيم الليبرالية يكلف العالم الثالث حوالي ما يعادل (قتلى) هيروشيما واحدة كل يومين) (2) .

وسوزان جورج كاتبة فرنسية من أصل أمريكي معروفة بمناهضة العولمة ، لها كتاب بعنوان ” تقرير لوجانو ـ مؤامرة الغرب الكبرى” تقول فيه : ” ثمة تيار فكري جديد في الغرب عموماً وأمريكا خصوصاً، بدأ ينبه إلى خطورة انفلات العولمة ـ قمة الليبرالية بصورة متوحشة وشرسة، لأنها تلتهم الفقراء في عالم اليوم لصالح تركز الثروة وتمركز السلطة في أيدي قلة من الأغنياء والأقوياء! وسيزداد عدد الخاسرين والفقراء في العالم!” ، وهذا تقرير المنشور منذ عدة سنوات يصل إلى أن العولمة والفكرة الرأسمالية لا يمكن أن تنجح إلا إذا تراجع عدد سكان العالم إلى 4 مليارات فقط يكون الغرب منهم 15% ، تقول الكاتبة: سيعاني سكان الدول الفقيرة درجات رهيبة من الجوع الواسع النطاق والبطالة المتسعة، مما يخلق أوضاعاً قابلة للانفجار! وستنفجر الأوضاع وتشتعل الحروب الأهلية والصراعات، أو يتم إشعالها بفعل فاعل هو الغرب الإمبريالي ومن يحركه.

فهذا الطرح ـ إذاً ـ ليس ضرباً للودع أو نوعاً من البروباجندا الفارغة ولكنه قراءة واعية لواقع يتم تزييفه وتجميله في أعين البسطاء عن طريق آلة الزيف الإعلامية ، ونخبة متناقضة في كل شيء تتلخص أطروحاتها عن الوطنية والثورة والحرية والنهضة والهوية المصرية في إسقاط المشروع الإسلامي!

ولنتكلم عن هذه الهيمنة الأمريكية الممتدة والضاربة بجذورها في مفاصل بلادنا على عدة حلقات ، سنبدأ بالهيمنة الإقتصادية ، وسأذكر لها صورتين:

الأولى: سياسة فتح السوق أو التبادل الحر وهي لب النظرية الرأسمالية وهي السياسة التي وصفها جارودي كما سبق بالتي تمكن الأقوى من التهام الأضعف أو بـ “الثعالب الحرة بين الدجاج الحر”، وهو ما قاله الأب “لاكوردير” في القرن التاسع عشر: “في العلاقة بين القوي والضعيف لا تكون الحرية إلا سببا في الظلم والاضطهاد”، وهو نفسه ما ذكره بأوضح تعبير تعليق وزير الخارجية الأمريكية”جيمس بيكر” عندما أعلن بوش عن أهمية خلق منطقة حرة للسوق في آلاسكا ؛ فقال: “دعونا نعلق الإنسانية على صليب من ذهب” ..

ونظرة خاطفة على السوق المصري ستجد سيطرة المنتجات الأمريكية على السوق في ظل الفارق الشاسع بين الصناعة الأمريكية والصناعة الوطنية وهو ما يستحيل تقليصه بدون وضع قيود على المنتجات الأمريكية يمنع إغراق السوق ويدعم المنتج الوطني ، بل قد نحتاج إلى الاقتصار في بعض المنتجات الرئيسية على المنتج المصري ـ ولو لفترة ـ حتى يقوى ويستطيع المنافسة..

أما الصورة الثانية من صور الهيمنة الاقتصادية على مصر بعد الثورة والتي مثلت أحد أسباب تفجر الوضع الداخلي هو قرض صندوق النقد الدولي ، ومعلوم أنه ليس إلا واجهة للنفوذ الأمريكي ، حتى أن رفضه قد يسبب فرض عقوبات أمريكية !! ، يقول روجية جارودي: (وعبر خمسة قرون من الاستعمار هدموا تركيب اقتصاديات ثلاثة أخماس العالم من خلال تحطيم منتوجاتها الغذائية لصالح زراعة المحصول الواحد، الذي جعل اقتصاديات الآخرين مجرد تابع للمتروبول، وخلقت هذه التبعية التخلف وحتى المجاعة، ولم يعد الحضور العسكري الآلة الوحيدة المهيمنة باستثناء حالة المخالفة الكبرى مثل “رفض المساعدات التي يقدمها صندوق النقد الدولي) !! (3)

وصندوق النقد الدولي ـ كما يقول أ.د. فوزي طايل ـ يقوم بوظيفة الحارس على النظام النقدي العالمي، وهو أحد صور الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على العالم بالإضافة إلى: البنك الدولي ـ اتفاقية الجات والتي تمخضت عن إنشاء منظمة العالمية للتجارة ، وهي الشريك الثالث لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في وضع السياسات العالمية كما عبر عن ذلك مدير عام الاتفاقية “بيتر سذرلاند” ، وكذلك هيئة التنمية الدولية ، منظمة الصحة العالمية ، الوكالة الدولية للطاقة الذرية ، منظمة الطيران المدني (4)

ويشرح جاروي آلية ذلك فيقول : (العلمية الأكثر تقليدية التي يفرضها صندوق النقد الدولي، هو ما نطلق عليه بحياء “إعادة تنظيم المبنى” .. إن المكونات الكبيرة لإعادة تنظيم المبنى تكون كالتالي:

– إيقاف الزيادة في الأجور وتحرير الأسعار
– تقليص المساعدات الإجتماعية التي تقدمها الدولة ويشمل ذلك الدعم المخصص للمستشفيات والمدارس والمؤسسات الإجتماعية والضمان الإجتماعي .
– وفي المقابل يمنع المساس بالاستثمارات (البناء والهندسة ـ المدنية …إلخ) في الوقت الذي لم يطلب صندوق النقد الدولي تقليص الميزانيات العسكرية
– إلغاء الدعم المخصص للانتاج، وهذا الإجراء من شأنه أن يؤثر أساسا على الطبقات الأكثر فقرا من السكان
– تخفيض قيمة العملة ومن نتائجها زيادة التصدير إلى الخارج والتقليل من الاستهلاك في الداخل
– وفي النهاية خصخصة الشركات التابعة للدولة ، بغية تسهيل هيمنة الشركات المتعددة الجنسية.

وقد اعترف الحاكم السابق للبنك المركزي في البرازيل مانيويل موريرا بأن نتائج إجراءات إعادة تنظيم المبنى وفق ما أراده صندوق النقد الدولي أدت إلى موت 500 ألف طفل.) (5)

وللعلم فلقد أجرى البنك الدولي دراسه على اقتصاد خمسين دولة نامية في سنة 1991 يتبنى نصفها برامج صندوق النقد الدولي ووجد أن الدول التي لم تتبنى برامج الصندوق حققت نموا اقتصاديا خلال ذلك العام بينما لم تحقق أي من الدول التي تبنت برامج الصندوق شئ من النمو الاقتصادي .

والعجيب أن من أوائل من حذر من ذلك هو المناضل المعروف الأستاذ عادل حسين ـ منذ ثلاثين عاماً ـ في كتابه “اقتصاد مصر من الاستقلال إلى التبعية 1974 – 1979” وكان مما قال: (وحول التبعية المفروضة، ودور صندوق النقد والبنك الدولي ووكالة التنمية الأمريكية، فالأشقاء الثلاثة مؤسسات تخطط وتدير السياسات اللازمة اقتصاديا لإعادة إنتاج النظام الدولي القائم على دول مسيطرة ودول تابعة. ومعروف أن هذه المؤسسات تقوم بمجهود مضاعف وأكثر تنسيقا في الدول التي حاولت التمرد فبعد نجاح الجهات الأخرى في التصفية السياسية لمحاولة الاستقلال ، يكون الأشقاء الثلاثة جاهزين لدعم هذا الانتصار بسياسات الاقتصادية الملائمة لإعادة النظام الإقتصادي إلى أوضاعه(الطبيعية)، أي إلى التبعية من جديد، بأقل آلام ممكنة ، وبأقصى سرعة) ولقد عنون لذلك بـ “بيع الأحلام” (6).. ويبدو أننا مازلنا نحب شراء الأحلام أو أنها أحلام بالإكراه!

فقرض صندوق النقد الدولي في حقيقته هو كماشة ذات فكين أحدهما أوضح من الآخر ، فالعقوبات الأمريكية تنتظر من يرفضه ، واستحكام السيطرة الأمريكية على الإقتصاد تنتظر من يقبله ويخضع له ، ويبدو أنه في ظل الضغوط الداخلية والفوضى والاضطرابات ـ التي يخطئ من يظنها بعيدة عن مخطط الهيمنة الأمريكية على مصر بعد الثورة ـ قررت الحكومة البقاء داخل الهيمنة الأمريكية إلى أجل غير معلوم ، وهذا في الحقيقة هو ما سيزيد الاحتقان الداخلي والضغط على شعب قد أنهكته الضغوط ، بالإضافة إلى استحكام الهيمنة الأمريكية على الإقتصاد المصري ، وهو خيار أبعد ما يكون عن طموح الإسلاميين وشباب الثورة والفقراء والمعدمين من أغلبية الشعب ، فضلاً على أنه قد لا يؤدي بالضرورة إلى تجنب الضغوط الأمريكية التي من الممكن أن تتغير صورها دون أن تختفي حقيقتها في ظل العقلية الصهيوصليبية المسيطرة على صناع القرار الأمريكي ، وللحديث بقية بإذن الله ..

الهوامش

(1) حامد ربيع ـ ” إحتواء العقل المصرى ” ـ الأهرام الاقتصادي ـ العدد 733 القاهرة فى 31/1/1983
(2) روجيه جاروي ، حوار مجلة المشاهدالسياسي اللندنية عدد54 بتاريخ 6:12إبريل 1997م
(3) روجيه جارودي – الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
(4) كيف نفكر استراتيجيا – لواء فوزي محمد طايل
(5) روجيه جارودي – الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
(6) عادل حسين – “اقتصاد مصر من الاستقلال إلى التبعية 1974 – 1979


التعليقات