التوافق والواقع ليس بدليل في ذاته! والعبرة للقواعد الراسخة التي لا تتغير! هذه هي القاعدة في التعامل مع المستحدثات والنوازل التي (قد) يتوافق وقوعها طبقًا لما يزعمه البعض، وقد تتعدد هذه (الموافقات) حتى يُظَنُّ أنها حقائق راسخات، وربما يستدل بعضهم ببعض القواعد الفقهية في غير محلها، كقاعدة أنه (لا أدل على الجواز من الوقوع)، وأن (رفع الواقع محال)، وغيرها…
والحق أن التوافق ليس دليلا على الصحة، وليس دليلا على الجواز، حتى وإن وقع!
وأما العقول المؤمنة المنضبطة؛ فكانت توقن من أول يوم أن هذا التوافق فتنة، وأنه لا يُعتمد عليه، وأن العبرة بقواعد الشرع وأصوله..
عندما تم اختيار موقع مدينة بغداد (أجمع المنجمون) على أن هذه المدينة «لا يموت فيها خليفة»! واستقر هذا القول عندهم، وانتقل إلى الشعراء، الذين وضعوا أشعارهم في هذا المعنى لتأكيده وترسيخه!
وجاءت فتنة التوافق!
فلم يمت المنصور ببغداد، بل مات بطريق مكة!
ولم يمت المهدي ابن أبي جعفر المنصور ببغداد، بل مات وهو خارجها!
ولم يمت الهادي ابن المهدي ببغداد، بل مات وهو خارجها!
ولم يمت هارون الرشيد ببغداد، بل مات وهو خارجها!
فهؤلاء أربعة من خلفاء بني العباس من الثاني إلى الخامس، لم يمت أي منهم بمدينة بغداد بعد تأسيسها، وفقا لما جزم به المنجمون!
فلما قتل بها الخليفة الأمين انخرمت وانتهت تلك الأسطورة، ووضع الشعراء في هذا كعادتهم تأريخا لهذه الواقعة:
كذب المنجم في مقالته الـــــتي نطقت على بغداد بالبهتان
قتل الأمين بها لعمري يقتضي تكذيبهم في سائر الحسبان
ثم مات بعدها الواثق بالله، والمتوكل على الله، والمعتمد بالله، والمكتفي بالله، والناصر لدين الله.. وبالتالي انتهت تلك الأسطورة، وتناستها العقول الخربة، وأما العقول المؤمنة المنضبطة؛ فكانت توقن من أول يوم أن هذا التوافق فتنة، وأنه لا يُعتمد عليه، وأن العبرة بقواعد الشرع وأصوله، وهذا هو الفرق بين العالم والمتعالم، فالعالم يعلم بالفتنة في أولها، وأما المتعالم والجاهل فلا يعلم بها إلا عند إدبارها!
التعليقات